الإمام قاعداً (أحكام ولطائف)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .. أما بعد:
فالقيام في الصلاة ركن من أركانها، ولا بد منه في الصلاة المفروضة، وهذا محل اتفاق عند العلماء، يقول عبد الرحمن الجزيري – رحمه الله تعالى -: “اتفقت المذاهب على أن القيام فرض على المصلي في جميع ركعات الفرض، بشرط أن يكون قادراً على القيام، فإن عجز عن القيام لمرض ونحوه؛ فإنه يسقط عنه، ويصلي على الحالة التي يقدر عليها”1 هذا في صلاة الرجل بمفرده؛ فماذا لو كان في جماعة، وكان هو الإمام فصلى قاعداً هل يصح للإمام أن يقعد في الصلاة؟
نطلع على كلام العلماء في ذلك علَّ الله أن ينفعنا بذلك:
فإنه إذا ابتدأ الإمام الصلاة قاعداً ففي صحة إمامته خلاف، والأفضل أن يستخلف غيره قال ابن قدامة – رحمه الله تعالى -: “المستحب للإمام إذا مرض وعجز عن القيام أن يستخلف؛ لأن الناس اختلفوا في صحة إمامته، فيخرج من الخلاف؛ ولأن صلاة القائم أكمل، فيستحب أن يكون الإمام كامل الصلاة، فإن قيل: قد صلى النبي ﷺ قاعداً بأصحابه ولم يستخلف؟ قلنا: صلى قاعداً؛ ليبين الجواز، واستخلف مرة أخرى؛ ولأن صلاة النبي ﷺ قاعداً أفضل من صلاة غيره قائماً”2، وسيأتي – إن شاء الله – أن الإمام الراتب له ما ليس لغيره، وأما مذاهب العلماء في ذلك فهي “الحنفية قالوا: يصح اقتداء القائم بالقاعد الذي يستطيع أن يركع ويسجد، أما العاجز عن الركوع والسجود فلا يصح اقتداء القائم به إذا كان قادراً، فإن عجز كل من الإمام والمأموم، وكانت صلاتهما بالإيماء؛ صح الاقتداء سواء كانا قاعدين، أو مضطجعين، أو مستلقيين، أو مختلفين، بشرط أن تكون حالة الإمام أقوى من حالة المقتدي؛ كأن يكون مضطجعاً والإمام قاعداً، والشافعية قالوا: تصح صلاة القائم خلف القاعد، والمضطجع؛ العاجزين عن القيام والقعود، والقادر على الركوع والسجود بالعاجز عنهما، والحنابلة قالوا: لا يصح اقتداء القائم بالقاعد الذي عجز عن القيام؛ إلا إذا كان العاجز عن القيام إماماً راتباً، وكان عجزه عن القيام بسبب علة يرجى زوالها”3، وممن صحح صلاة المأمومين جلوساً خلف الإمام الجالس: “الأوزاعي، وحماد بن زيد، وإسحق، وابن المنذر، إذ أن ذلك قد فعله أربعة من الصحابة: أسيد بن حضير، وجابر، وقيس بن فهد، وأبو هريرة “4، قال الألباني – رحمه الله تعالى -: “وقد أفتى به من التابعين: جابر بن زيد أبو الشعثاء، ولم يرو عن أحد من التابعين أصلاً بخلافه لا بإسناد صحيح ولا واه، فكأن التابعين أجمعوا على إجازته”5، “وممن قال بعدم الصحة: مالك في إحدى روايتيه، قال: لا تصح صلاة القادر على القيام خلف القاعد، وهو قول محمد بن الحسن؛ لأن الشعبي روى عن النبي ﷺ أنه قال: لا يؤمن أحد بعدي جالساً6، ولأن القيام ركن فلا يصح ائتمام القادر عليه بالعاجز عنه كسائر الأركان”7، وممن رأى أنه لا بد أن يصلي المأمومون قياماً خلف الإمام: “الثوري والشافعي، وأصحاب الرأي، إذ يقولون: يصلون خلفه قياماً لما روت عائشة – رضي الله عنها -: “أن النبي ﷺ استخلف أبا بكرٍ ، ثم إن النبي ﷺ وجد في نفسه خفة، فخرج بين رجلين فأجلساه إلى جنب أبي بكرٍ، فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي ﷺ، والناس يصلون بصلاة أبي بكرٍ، والنبي ﷺ قاعد”8، متفق عليه، وهذا آخر الأمرين من رسول الله ﷺ ؛ ولأنه ركن قدر عليه فلم يجز له تركه كسائر الأركان”9، ويظهر من الكلام السابق أن أصح الأقوال وأقواها – لأن معه النص – أن على المأمومين متابعة الإمام في ذلك، وهذا ما رجحه ابن قدامة – رحمه الله تعالى -، وذكر الأدلة، وبين ضعف الأقوال الأخرى إذ يقول: “ولنا ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ : إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون10، وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: صلى بنا رسول الله ﷺ في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالساً، وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون11، وروى أنس نحوه أخرجهما البخاري ومسلم، وروى جابر عن النبي ﷺ مثله أخرجه مسلم، ورواه أسيد بن حضير وعمل به، وقال ابن عبد البر: روي هذا الحديث عن النبي ﷺ من طرق متواترة من حديث أنس وجابر، وأبي هريرة وابن عمر، وعائشة، كلها بأسانيد صحاح.
ولأنها حالة قعود الإمام فكان على المأمومين متابعته كحال التشهد، فأما حديث الشعبي فمرسل يرويه جابر الجعفي وهو متروك12، وقد فعله أربعة من أصحاب النبي ﷺ بعده”13، والأحاديث التي استدل بها المخالف بيَّن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – كيف نجمع بينها وبين الأحاديث الأخرى فقال: (لمن استدل أن أبا بكر والصحابة صلوا خلف النبي ﷺ قياماً): “قال أحمد: ليس في هذا حجة؛ لأن أبا بكر كان ابتدأ الصلاة، فإذا ابتدأ الصلاة قائماً صلوا قياماً، فأشار أحمد إلى أنه يمكن الجمع بين الحديثين بحمل الأول على من ابتدأ الصلاة جالساً، والثاني على ما إذا ابتدأ الصلاة قائماً ثم اعتل فجلس، ومتى أمكن الجمع بين الحديثين وجب، ولم يحمل على النسخ…”14. فإن صلوا قياماً بعد إمامٍ قاعد فما الحكم؟
يقول ابن قدامة: “فإن صلوا وراءه قياماً ففيه وجهان:
أحدهما لا تصح صلاتهم أومأ إليه أحمد فإنه قال: إن صلى الإمام جالساً، والذين خلفه قياماً؛ لم يقتدوا بالإمام، إنما اتباعهم له إذا صلى جالساً صلوا جلوساً، وذلك لأن النبي ﷺ أمرهم بالجلوس، ونهاهم عن القيام فقال في حديث جابر : إذا صلى الإمام قاعداً فصلوا قعوداً، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، ولا تقوموا والإمام جالس كما يفعل أهل فارس بعظمائها فقعدنا”15، والأمر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولأنه ترك اتباع إمامه مع قدرته عليه أشبه بتارك القيام في حال قيام إمامه.
والثاني: تصح لأن النبي ﷺ لما صلى وراءه قوم قياماً لم يأمرهم بالإعادة؛ فعلى هذا يحمل الأمر على الاستحباب؛ ولأنه يتكلف القيام في موضع يجوز له القعود أشبه المريض إذا تكلف القيام، ويحتمل أن تصح صلاة الجاهل بوجوب القعود دون العالم بذلك كقولنا في الذي ركع دون الصف، فأما من وجب عليه القيام فقعد فإن صلاته لا تصح لأنه ترك ركناً يقدر على الإتيان به”16، وهنا تنبيه وهو: يصلي القاعد بالقائم بشرطين ذكرهما صاحب المغني إذ يقول: “ولا يؤم القاعد من يقدر على القيام إلا بشرطين: أحدهما أن يكون إمام الحي، نص عليه أحمد فقال: ذلك لإمام الحي لأنه لا حاجة بهم إلى تقديم عاجز عن القيام إذا لم يكن الإمام الراتب، فلا يتحمل إسقاط ركن في الصلاة لغير حاجة، والنبي ﷺ حيث فعل ذلك كان هو الإمام الراتب، والثاني أن يكون مرضه يرجى زواله؛ لأن اتخاذ الزَّمِن، ومن لا يرجى قدرته على القيام إماماً راتباً؛ يفضي إلى تركهم القيام على الدوام، ولا حاجة إليه، ولأن الأصل في هذا فعل النبي ﷺ، والنبي ﷺ كان يرجى برؤه”17، وقال أيضاً في العدة شرح العمدة: “ولا تصح خلف تارك ركن إلا إمام الحي إذا صلى جالساً لمرض يرجى برؤه، فإنهم يصلون وراءه جلوساً”؛ لأن النبي ﷺ صلى بهم جالساً، فصلى قومٌ وراءه قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، ثم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون18 متفق عليه”19.
أما إذا ابتدأ الإمام الصلاة قائماً، ثم طرأ له ما يقعده؛ فإن المأمومين يبقون على قيامهم، يقول ابن قدامة – رحمه الله تعالى -: “فإن ابتدأ بهم الصلاة قائماً، ثم اعتل فجلس؛ ائتموا خلفه قياماً، إنما كان كذلك؛ لأن أبا بكر حيث ابتدأ بهم الصلاة قائماً، ثم جاء النبي ﷺ فأتم الصلاة بهم جالساً؛ أتموا قياماً ولم يجلسوا؛ ولأن القيام هو الأصل، فمن بدأ به في الصلاة لزمه في جميعها إذا قدر عليه، كالتنازع في صلاة المقيم يلزمه إتمامها، وإن حدث مبيح القصر في أثنائها”20، وقال في العدة: “فإن ابتدأ بهم الصلاة قائماً ثم اعتل وجلس أتموا خلفه قياماً؛ لأن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “لما ثقل رسول الله ﷺ … وذكر الحديث”21 فأتموا قياماً؛ لابتدائهم قياماً”22.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً، والحمد لله رب العالمين.
1 الفقه على المذاهب الأربعة (1-251).
2 المغني (2-48).
3 الفقه على المذاهب الأربعة (1-665).
4 المغني (2-48).
5 صحيح ابن حبان للألباني (5-471).
6 قال الألباني: “قال علي بن عمر: لم يروه غير جابر الجعفي، وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة، سنن البيهقي الكبرى (4854).
7 المغني (2-48).
8 البخاري (646)، مسلم (629).
9 المغني (2-48).
10 البخاري (1062)، ومسلم (412).
11 البخاري (656)، ومسلم (411).
12 وقد بيَّن هذا الألباني انظر الحاشية رقم (6).
13 المغني (2-48).
14 نفس المصدر.
15 أبو داود (602) صححه الألباني في صحيح أبي داود (562).
16 المغني (2-48).
17 المغني (2-48).
18 سبق تخريجه.
19 العدة شرح العمدة (1-93).
20 نفس المصدر.
21 سبق تخريجه.
22 العدة شرح العمدة (1-93).