المسجد على الأرض المغصوبة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
للمسجد مكانة عظمى، وأهمية بالغة في دين الله ، فهو مكان لا غنى للمسلمين عنه، إذ هو محل أداء شعائرهم التعبدية من الصلاة، والاعتكاف، وقراءة القرآن، وذكر الله – تعالى -، وهو منطلق الهداية والتوجيه، وميدان العلم والتعليم، ومنبت التربية والتثقيف، وينبوع العلم والمعرفة والتثقيف، وهو النور المشع في قلوب المؤمنين، وهو ميدان تخريج العلماء والأبطال، والقادة العظماء والمفكرين، وهو ساحة التقاء المسلم بأخيه المسلم على منهج الله – تعالى -، وعلى عبادة الله – تعالى – يقول الله : إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ1، وقال سبحانه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ2، ولأهميتها نسبها الله – تعالى – إليه فقال: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً3. ومما يدل على مكانتها ورفعة شأنها أن عُمَّارها هم صفوة الخلق من الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين قال – تعالى -: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ4.
وقد ندب الرسول ﷺ لعمارتها فجاء في الصحيحين عن عثمان بن عفان قال: سمعت النبي ﷺ يقول: من بنى مسجداً – قال بكير حسبت أنه قال – يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة5، وعند أحمد مرفوعاً: من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة6.
فهذا الفضل المترتب على بناء المساجد، لكن الذي يريد أن يبني مسجداً عليه أن يبنيه في ملكه، حتى يستحق هذا الجزاء، بخلاف من اغتصب أرضاً ليقيم عليها مسجداً وما شابه ذلك فإن الصلاة في مثل هذا المسجد لا تجوز لأنها على أرض مغصوبة، ولو جاز أن تبنى المساجد على أراض مغصوبة؛ لوجدنا الكثيرين ممن يريد أن يكون لهم الثراء الفاحش، والغنى الكثير من مثل هذه المشروعات، وحكم هذا أن الأراضي المغتصبة حرام، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وعلى هذا فإن علينا أن نتحرى الأرض، ثم إذا أردنا بناء وإقامة المشاريع الخيرية كإقامة المساجد فيجب أن نبني على تقوى من الله – تعالى – ورضوان، وطهارة ونقاء، ونظافة من القلب، وصفاء من الضمير قال – تعالى -: لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)7.
ولأن شريعة الإسلام تَحترِم حقوق الأفراد ومنها حق الملكية؛ فإن فيها أن من ثَبتَتْ ملكيتُه لشيء بطريقة مشروعة؛ لا يَجوز أن يُغتصب مِلْكُه ظلماً لأي سببٍ ولو كان لإقامة مسجد به إلا أنْ تَطيبٍ نفسه به ببيعٍ أو هِبَةٍ، وإلا كان هذا من كبائر الإثم عند الله – تعالى -، قال ابن قدامة – رحمه الله -: “فَصْلٌ: وَفِي الصَّلاةِ في الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ روايتان: إحْدَاهمَا: لا تَصِحُّ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّانِيَةُ: تَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي لأَنَّ النَّهْيَ لا يَعُودُ إلَى الصَّلاةِ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهَا، كَمَا لَوْ صَلَّى وَهُوَ يَرَى غَرِيقاً يُمْكِنُهُ إنْقَاذُهُ؛ فَلَمْ يُنْقِذْهُ، أَوْ حَرِيقاً يَقْدِرُ عَلَى إطْفَائِهِ فَلَمْ يُطْفِئْهُ، أَوْ مَطَلَ غَرِيمَهُ الَّذِي يُمْكِنُ إيفَاؤُهُ وَصَلَّى، وَلَنَا أَن الصَّلاةَ عِبَادَةٌ أَتَى بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِي عَنْهُ فَلَمْ تَصِحَّ، كَصَلاةِ الْحَائِضِ وَصَوْمِهَا، وَذَلِكَ لأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْفِعْلِ وَاجتنابه، وَالتَأثيمَ بِفِعْلِه، فَكَيْفَ يَكُونُ مُطِيعاً بِمَا هُوَ عَاص به، ممتَثِلاً بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، مُتَقَرِّباً بِمَا يَبْعُدُ بِهِ، فَإِنَّ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْعَالٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، هُوَ عَاصٍ بِهَا، مَنْهِيٌّ عَنْهَا”8.
ولا يجوز أن يصلي في أرض مغصوبة لأن اللبث فيها يحرم في غير الصلاة، فكان يحرم في الصلاة من باب أولى، فإن صلى فيها صحت صلاته لأن المنع لا يختص بالصلاة، فلا يمنع صحته9، وقال النووي – رحمه الله – في شرحه لهذا الكلام: “الصلاة في الأرض المغصوبة حرام بالإجماع، وصحيحة عندنا وعند الجمهور من الفقهاء وأصحاب الأصول، وقال أحمد بن حنبل والجبائي وغيره من المعتزلة: باطلة، واستدل عليهم الأصوليون بإجماع من قبلهم، قال الغزالي في المستصفى: هذه المسألة قطعية ليست اجتهادية، والمصيب فيها واحد، لأن من صحح الصلاة أخذه من الإجماع وهو قطعي، ومن أبطلها أخذه من التضاد الذي بين القربة والمعصية، ويدعي كون ذلك محالاً بالعقل، فالمسألة قطعية، ومن صححها يقول هو عاص من وجه متقرب”10، وجاء في فتاوى الأزهر: “وقف الغاصب ما غصبه غير صحيح، وينقض ما بناه على الأرض المغصوبة ولو كان البناء مسجداً”11، وجاء أيضاً: “على الأرض المغصوبة مؤقتاً للصلاة فيه بصفة مؤقتة، فإن هذا المبنى أيضاً لا يعتبر مسجداً لإقامته في أرض مغصوبة، ولعدم وقفه شرعاً، ولصاحب الأرض أن ينقض المصلَى، وكذلك لولى الأمر الذي يرعى هذه الأملاك أن ينقضها”12. الترجيح:
والذي يظهر – والله أعلم – أنه لا يجوز بناء المساجد على الأرض المغصوبة وذلك لأنها ملك للغير، فلا يجوز التصرف فيها إلا بإذن صاحبها، وإذا كانت الصلاة في الأرض المغصوبة لا تجوز فكذلك البناء حرام بإلاجماع لأنه لا يجوز نزع ملكية الغير؛ فإن بنى فإن هذا المبنى لا يعتبر مسجداً لإقامته في أرض الغير، ولعدم وقفه شرعاً، ولصاحب الأرض أن ينقض المصلَى، والله أعلم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 سورة التوبة (18).
2 سورة النور(36-37).
3 سورة الجن (18).
4 سورة البقرة (127-128).
5 رواه البخاري في صحيحه برقم(439)؛ ومسلم برقم(533).
6 رواه أحمد (5/82) برقم (2050)؛ وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره وهذا إسناد ضعيف.
7 سورة التوبة (108-109).
8 المغني (3/228).
9 المجموع (3/ 163).
10 المجموع (3/ 164).
11 فتاوى الأزهر (7/49).
12 فتاوى الأزهر (7/186).