هلَّا شكرناه

هلَّا شكرناه

هلَّا شكرناه

 

الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم، منَّ1 علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مودع ربي ولا مكافأ، ولا مكفور2 ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، و كسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصر من العمى، وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلاً، والصلاة والسلام على من في ضراه صبر، وفي نعمائه شكر، وبهذا حض سائر البشر، أما بعد:

ذلكم الله

أغدق عليك النعم، ودفع عنك النقم، ووافاك جزيل الكرم {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}3.

مننه صوبك تتوالى، والشرور عنك تتواري، ورغم ضعفك تتعالى، تتقلب بين أفياء عطاياه ولا تشعر، وتتمتع بعظيم نواله ولا تنظر، وترجو دراك ظلاله ولم تشكر، فما بالك لم توافه حقه، وتقرَّ له بفضله، أعطاك وحرم غيرك، أطعمك وترك غيرك، كساك وعرى سواك، شفاك وأمرض أخاك {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}4.

عبد الله:

تأمل نفسك! أنت ترفل في ثياب العافية والصحة، قوة في جلد، ونعيم يتلوه رغد، أرزاقك في اتساع، ودنياك من إمتاع إلى إمتاع، تصبو بشائر الخير رضى على قسمات وجهك، وتسرى نسائم الروح لتداعب جنبات جسمك {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا}5.

إذا مس بالسراء عم سرورها                وإن مس بالضراء أعقبها الأجر

وما منهـما إلا له فيه منـة                 تضيق بها الأوهام والبر والبحر

ألا يستحق منا الشكر وقد قال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}6.

وإذا أردت أن تعرف حقيقة الشكر فهي: الاعتراف بالمنة لله – تعالى في النعمة -، واستعمال النعمة فيما يرضى المنعم.7

قال حكيم الترمذي: ثلاثة أشياء هي من فعال الشاكرين: أولها: أن يكثر ذكر منّة شكر الله عليه، والثاني: يعتبر بمن ابتلاه الله بالشقاوة والسعادة لقوله: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}8، والثالث: أن يجتهد حتى يؤدي الشكر.9

هؤلاء الشاكرين:

قالوا: إذا أردت أنت تعرف منَّة الله عليك فانظر إلى غيرك، وإني أدعوك أن تحلق معي بقلبك قبل نظرك، مع موقف للشاكرين – وإني أحسب صاحبه والله حسيبه – من أولئك القليل الذين قال الله فيهم: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}10، أوردته لتدرك أي نعمة أنت فيها أولاً، ثم تؤدي واجب منن الله عليك ثانياً.

جاء في كتاب الثقات لابن حبان – رحمه الله – في ترجمة التابعي الجليل أبي قلابة11 ما نصه: " قال حدثني بقصة موته محمد بن المنذر بن سعيد قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق بن الجراح، قال: حدثنا الفضل بن عيسى عن بقية بن الوليد قال: حدثنا الأوزاعي عن عبد الله بن محمد قال: خرجت إلى ساحل البحر مرابطاً، وكان رابطُنا يومئذ عريشَ مصر, قال: فلما انتهيت إلى الساحل فإذا أنا ببطيحة، وفي البطيحة خيمة فيها رجل قد ذهبت يداه ورجلاه، وثقل سمعه وبصره، وما لَهُ من جارحة تنفعه إلا لسانُه، وهو يقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت عليَّ بها، وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً.

قال الأوزاعي: قال عبد الله قلت: والله لآتين هذا الرجل ولأسألنه – أنى له هذا الكلام -: فَهْمٌ أم علم؟ أم إلهام ألهم؟.

فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت: سمعتك وأنت تقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها علي، وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً, فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها؟ وأي فضيلة تفضَّل بها عليك تشكره عليها؟.

قال: وما ترى ما صنع بي ربي؟ والله لو أرسل السماء علي ناراً فأحرقتني, وأمر الجبال فدمرتني, وأمر البحار فأغرقتني, وأمر الأرض فبلعتني, ما ازددت لربي إلا شكراً؛ لما أنعم علي من لساني هذا, ولكن يا عبد الله إذ أتيتني لي إليك حاجة, قد تراني على أي حالة أنا، أنا لست أقدر لنفسي على ضر ولا نفع, ولقد كان معي بُنَيٌّ لي يتعاهدني في وقت صلاتي فيوضيِّني, وإذا جعت أطعمني, وإذا عطشت سقاني, ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام فتحسسه لي – رحمك الله -.

فقلت: والله ما مشى خلق في حاجة خلق كان أعظم عند الله أجراً ممن يمشي في حاجة مثلك, فمضيت في طلب الغلام, فما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل, فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبُعٌ، وأكل لحمه, فاسترجعت وقلت: أنى لي وجهٌ رقيقٌ آتي به الرجل, فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكرُ أيوب النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما أتيته سلمت عليه, فرد عليَّ السلام, فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى! قال: ما فعلت في حاجتي؟ فقلت: أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟ قال: بل أيوب النبي, قلت: هل علمت ما صنع الله به, أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟ قال: بلى، قلت: فكيف وجده؟ قال: وجده صابراً شاكراً حامداً, قلت:لم يرض منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبابه قال: نعم, قلت فكيف وجده ربه؟ قال: وجده صابراً شاكراً حامداً, قلت: فلم يرض منه بذلك حتى صيَّره عرضاً لمارِّ الطريق هل علمت؟ قال: نعم, قلت: فكيف وجده ربه؟ قال: صابراً شاكراً حامداً, أوجز رحمك الله! قلت له: إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبع, فأكل لحمه؛ فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر.

فقال المبتلى: الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقاً يعصيه؛ فيعذبه بالنار, ثم استرجع, وشهق شهقة فمات, فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون, عظمت مصيبتي, رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع, وإن قعدت لم أقدر له على ضر ولا نفع, فسجَّيته بشملة كانت عليه, وقعدت عند رأسه باكياً, فبينما أنا قاعد إذ تهجَّم عليَّ أربعة رجال فقالوا: يا عبد الله! ما حالك وما قصتك؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته, فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه فعسى أن نعرفه, فكشفت عن وجهه؛ فانكب القوم عليه يقبلون عينيه مرة, ويديه أخرى ويقولون: بأبي عين طال ما غضت عن محارم الله, وبأبي جسم طال ما كنتَ ساجداً والناس نيام, فقلت: من هذا يرحمكم الله؟ فقالوا: هذا أبو قلابة الجرمي صاحب ابن عباس, لقد كان شديد الحب لله وللنبي – صلى الله عليه وسلم – فغسلناه وكفناه بأثواب كانت معنا, وصلينا عليه ودفناه, فانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي, فلما أن جنَّ الليل وضعت رأسي فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة, وعليه حلتان من حلل الجنة وهو يتلو الوحي: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }12، فقلت: ألست بصاحبي، قال: بلى! قلت: أنى لك هذا؟ قال: إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء مع خشية الله – عز وجل – بالسر والعلانية".

أيها الموفق:

اشكر من وضع الخير لديك، وكن مثنياً على من أحسن إليك، حيث أجاب سؤالك، وحقق آمالك، وصدق ظنك، وأضحك سنك، وأتحفك بكرائم كرمه، وأطلع في أفقك نعائم نعمه، ولبى دعوتك، وروض عدوتك، ورعى جانبك، وبلغك مآربك، وقوى معينيك، وأيد معانيك، وأسكنك من العليا قباباً، وفتح لك إلى دار السعادة أبواباً، وإياك والتقصير في حق من شملك بفضله الغزير، وقم بواجب من قلدك المنة، ولا تجعل الاعتذار بعجزك من غير حرص جنة.

أطلق لسانك بالثناء على الذي              أولاك حسن غرائب ورغائب

واشكره شكر الروض حياه الحيا            كيما تقوم له ببعض الواجب13

وقل:

فلأشكرنك ما حييت وإن أمت              فلتشكرنك أعظمي في قبرها

اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر, وإذا أذنب استغفر، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – خير البشر.


 


1 المنُّ: الإنعام والإحسان.

2 مكفور: أي مجحود فضله.

3 سورة النحل (53).

4 سورة النحل (18).

5 سورة النساء (70).

6 سورة إبراهيم (7).

7 مكفرات الذنوب وموجبات الجنة "باب في الشكر".

8 سورة الأنبياء (35).

9 العقل والهوى عند تفسيره للمراد بالشكر.

10 سورة سبأ (13).

11 أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي من عباد أهل البصرة وزهادهم، يروي عن أنس بن مالك، ومالك بن الحويرث، وروى عنه أيوب وخالد مات بالشام سنة 104هـ في ولاية يزيد بن عبد الملك.

12 سورة الرعد (24).

13 نسيم الصبا لابن حبيب الحلبي "فصل في الشكر والثناء".