ضبط النفس عند الغضب

ضبط النفس عند الغضب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله، وأصحابه أجمعين أما بعد:

فإن الغضب شعلة من نار تلظى، تطلع على الأفئدة، تحرق الوقار والسكينة وحسن السمت، فهو جدير بهدم هذا البناء الخلقي؛ وهو مدعاة إلى المقت والخذلان، وصفة ذميمة تعافها النفوس، وتشمئز منها القلوب، وتُمَزِّق التعاون والتآلف، وتنحدر بصاحبها إلى الهاوية؛ لأن الغضب طبع ذميم يشوبه الكبر والغطرسة، والعجب والغرور؛ فما إن يتمكن في القلب حتى يجعله كالرميم؛ لأنه محرق للفؤاد، ومشتتٌ للذهن، ومنغصٌ للحياة، ومدمرٌ للأسر، وقاطع للأرحام، ومفرق للجماعات، ومزهق للأرواح، ومظهر للأفعال بدون ترتيب ونظام، وتفكير وبناء للألفاظ؛ فهو جالبٌ للخصوم، ومضيع للحقوق، وساكبٌ للأحقاد في قلوب العباد1.

عبد الله: كيف تطفئ هذا الغضب؟ وكيف تعالجه فتضبط نفسك عند حدوث الغضب؟ إن هناك ذكرٌ واسع لمعالجة هذا الخلق الذميم، ورد في السنة النبوية للتخلص من هذا الداء، وللحدّ من آثاره، فإليك هذا الذكر والعلاج لكي تستعين به على ضبط نفسك، ومعالجتها عند الغضب:

1- الاستعاذة بالله من الشيطان: فعن سليمان بن صُرَد قال: كنت جالساً مع النبي ، ورجلان يستبّان، فأحدهما احمّر وجهه، وانتفخت أوداجه2 فقال النبي : إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان؛ ذهب عنه ما يجد3.

2- السكوت: قال رسول الله : إذا غضب أحدكم فليسكت4 وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً، فيتلفظ بكلمات قد يكون فيها كفر – والعياذ بالله -، أو لعن، أو طلاق يهدم بيته، أو سب وشتم يجلب له عداوة الآخرين، فالسكوت هو الحل لتلافي ذلك كله5.

3- تغيير الحالة: فإن كان قائماً فليجلس، وإن كان جالساً فليضطجع فقد جاء من حديث أبي ذر  أن رسول الله قال: إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع6 إن الغاضب قد يضرب أو يؤذي، بل قد يقتل، وربما أتلف مالاً ونحوه، فالقعود كان أبعد عن الهيجان والثوران، وإذا اضطجع صار أبعد ما يمكن عن التصرفات الطائشة، والأفعال المؤذية، قال الخطابي- رحمه الله -: “القائم متهيء للحركة والبطش، والقاعد دونه في هذا المعنى، والمضطجع ممنوع منهما، فيشبه أن يكون النبي  إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوه بادرة يندم عليها فيما بعد”7.

4- حفظ وصية رسول الله  فعن أبي هريرة  أن رجلاً قال للنبي : أوصني قال: لا تغضب، فردَّد ذلك مراراً، قال: لا تغضب8، وفي رواية قال الرجل: ففكرت حين قال النبي ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله”9.

5- معرفة الرتبة العالية، والميزة المتقدمة لمن ملك نفسه عند الغضب: قال رسول الله : ليس الشديد بالصُّرعة، إن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب10.

6- التأسي بهديه  في الغضب: هذه السِّمة من أخلاقه ، وهو أسوتنا وقدوتنا، ينبغي علينا أن نتأسى به، ففي الغضب روى أنس  أنه قال: “كنت أمشي مع رسول الله ، وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجَبَذَه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي  وقد أثَّرت بها حاشية البُرْدِ، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفتَ إليه  فضحك، ثم أمر له بعطاء)11، ومن التأسي بالنبي أن نجعل غضبنا لله، وإذا انتُهكت محارم الله، وهذا هو الغضب المحمود، فقد غضب لما أخبروه عن الإمام الذي يُنفّر الناس من الصلاة بطول قراءته، وغضب لما رأى في بيت عائشة – رضي الله عنها – ستراً فيه صور ذوات أرواح، وغضب لما كلّمه أسامة في شأن المخزومية التي سرقت، وقال: أتشفع في حد من حدود الله12، وغضب لما  سُئل عن أشياء كرهها، وغير ذلك، فكان غضبه  لله13.

7- ضبط النفس، ورد الغضب من علامات المتقين: فهؤلاء الذين مدحهم الله في كتابه، وأثنى عليهم رسوله ، وأعدت لهم جنات عرضها السماوات والأرض، من صفاتهم أنهم: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران:134)، وهؤلاء الذين ذكر الله من حسن أخلاقهم، وجميل صفاتهم وأفعالهم؛ ما تشرئبّ الأعناق، وتتطلع النفوس للّحوق بهم، ومن أخلاقهم أنهم: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (الشورى:37) 14.

8- التذكر عند التذكير: الغضب أمر من طبيعة النفس البشرية يتفاوت فيه الناس، وقد يكون من العسير على المرء أن لا يغضب، لكن الصِّدِّيقين إذا غضبوا فذُكّروا بالله ذكروا الله، ووقفوا عند حدوده.

9- معرفة مساوي الغضب: وهي كثيرة، مجملها: الإضرار بالنفس والآخرين، فينطلق اللسان بالشتم، والسبّ، والفحش، وتنطلق اليد بالبطش بغير حساب، وقد يصل الأمر إلى القتل وغيرها من مساوي الغضب.

10- تأمل الغاضب نفسه لحظة الغضب: فلو قُدّر لغاضب أن ينظر إلى صورته في المرآة حين غضبه لكره نفسه ومنظره، فلو رأى تغيّر لونه، وشدة رعدته، وارتجاف أطرافه، وتغيّر خلقته، واحمرار وجهه، وجحوظ عينيه، وخروج حركاته عن الترتيب، وأنه يتصرف مثل المجانين؛ لأنف من نفسه، واشمأز من هيئته15.

فحري بكل مسلم ومسلمة أن يكون بعيداً عن أسبابه؛ لكي ينجو من الانحطاط الخلقي الذي يمارسه الغاضب من سوء في المقال، وخبث في الأفعال بدون تمعنٍ في عاقبة الخذلان، وما هذا كله إلا لأن الغاضب لنفسه يقدم العاطفة على العقل في أقواله وأفعاله؛ فهو يتصرف بعاطفته لا بعقله، ولو علم حقيقة ما يغضب من أجله لعد نفسه من المجانين؛ لأنه بعيد عن واقع ما يغضب من أجله، والمتأمل في كثير ممن يمارسون سرعة الغضب وانفعاله لديهم يرى أنهم يندمون على فعلهم في حال غضبهم، فهم في تعاسة في حال فعلهم، وحسرة على ما صدر منهم بعد زوال الغضب، هم في شقاق وشقاء وظلام؛ لأنهم يفعلون ما لا يريدون، ويبغضون ما يصنعون، ويطلبون السلامة بما لا يقدرون؛ إلا بتوفيق الحي القيوم16.

اللهم أعنا على أنفسنا، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأفعال إنك سميع قريب، مجيب الدعاء.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين،


1– راجع: مجلة البيان عدد (124) عنوان “الغضب”.

2– عروق من العُنقُ.

3– رواه البخاري.

4– أحمد (1 /239)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (693).

5– راجع: شكاوى وحلول ص (44) الشيخ محمد صالح المنجد.

6– سنن أبي داود، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (5114).

7–  شرح سنن أبي داود (5 /141).

8– البخاري.

9– أحمد (5 /373).

10– متفق عليه.

11– متفق عليه .

12– متفق عليه.

13– راجع: شكاوى وحلول ص (48) للشيخ محمد صالح المنجد.

14– المصدر السابق ص (49).

15– المصدر السابق ص (52).

16– راجع: مجلة البيان رقم (124)، بعنوان” الغضب”.