حكم صلاة الجماعة

 

 

حكم صلاة الجماعة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلن يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله.

صلّى الله عليه ما تعاقب الليل والنهار، وعلى آله وصحابته الأخيار، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم القرار.

أما بعد:

فإن: من سمُو هذه الشريعة أنها تشرع في كثير من عباداتها الاجتماعات التي هي عبارة عن مؤتمرات إسلامية، يجتمع فيها المسلمون ليتواصلوا ويتعارفوا ويتشاوروا في أمورهم، ويتعاونوا على حل مشاكلها، وتداول الرأي فيها.

وإنما شرعت هذه الاجتماعات العظيمة في الإسلام لأجل مصالح المسلمين; ليحصل التواصل بينهم بالإحسان والعطف والرعاية, وليدوم التواد والتحاب بينهم, ولأجل أن يعرف بعضهم أحوال بعض, فيقومون بعيادة المرضى, وتشييع الجنائز, وإغاثة الملهوفين, وكذلك إظهار قوة المسلمين وترابطهم, فيغيظون بذلك أعداءهم من الكفار والمنافقين, ولأجل إزالة ما ينسجه بينهم شياطين الجن والإنس من العداوة والتقاطع والأحقاد, فيحصل الائتلاف واجتماع القلوب على البر والتقوى, ولهذا قال النبي  :  (لا تختلفوا; فتختلف قلوبكم)1..

ومما يجمع المسلمين في أوقات عديدة في اليوم الواحد صلاة الجماعة التي أخبر النبي   عن فضلها إضافة إلى فوائدها وثمارها فقال  🙁صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة).2

وللأسف فإن هناك عزوفا كبيرا من بعض الناس عن صلاة الجماعة، وعن تأديتها في بيوت الله حيث ينادى بها؛ فلذلك أحببنا أن نُذَكِّر بحكم صلاة الجماعة، مع بعض فضائلها وأحكامها.

أيها الناس: لقد دلت الأدلة الصحيحة الصريحة بأن صلاة الجماعة فرض على المسلمين؛فمن الأدلة على ذلك ما جاء في كتاب ربنا قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}سورة النساء(102).. فدلت هذه الآية الكريمة على تأكد وجوب صلاة الجماعة, حيث لم يرخص للمسلمين في تركها حال الخوف, فلو كانت غير واجبة, لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف; فإن الجماعة في صلاة الخوف يترك لها أكثر واجبات الصلاة, فلولا تأكد وجوبها لم يترك من أجلها تلك الواجبات الكثيرة; فقد اغتفرت في صلاة الخوف أفعال كثيرة من أجلها.

ومن الأدلة أيضاً ما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي  ; أنه قال: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر, ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا, ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام, ثم آمر رجلا فيصلي بالناس, ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة, فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)3. ووجه الاستدلال من الحديث على وجوب صلاة الجماعة من وجهين:

الوجه الأول: أنه وصف المتخلفين عنها بالنفاق, والمتخلف عن السنة لا يعد منافقا; فدل على أنهم تخلفوا عن واجب.

الوجه الثاني: أنه   همّ بعقوبتهم على التخلف عنها, والعقوبة إنما تكون على ترك واجب, وإنما منعه صلى الله عليه وسلم من تنفيذ هذه العقوبة من في البيوت من النساء والذراري الذين لا تجب عليهم الجماعة.

ومن الأدلة على وجوب صلاة الجمعة على الأعيان ما جاء في قصة الرجل الأعمى أنه قال:يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد, فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته, فرخص له, فلما ولّى دعاه, فقال: (هل تسمع النداء؟), قال: نعم, قال: (فأجب)4. فأمره النبي   بالحضور إلى المسجد لصلاة الجماعة وإجابة النداء مع ما يلاقيه من المشقة, فدل ذلك على وجوب صلاة الجماعة.

ومن الأدلة على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان أن وجوبها قد كان مستقرا عند المؤمنين من صدر هذه الأمة؛ قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: “ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق, ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف”5. فدل ذلك على استقرار وجوبها عند صحابة رسول الله  , ولم يعلموا ذلك إلا من جهة النبي  , ومعلوم أن كل أمر لا يتخلف عنه إلا منافق يكون واجبا على الأعيان.

ولأجل صلاة الجماعة عمرت المساجد, ورتب لها الأئمة والمؤذنون, وشرع النداء لها بأعلى صوت: “حي على الصلاة, حي على الفلاح”. فعلى المؤمن أن يستجيب لنداء الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} سورة الأنفال(24).

أيها المؤمن: إن مما يجب عليك أن تعلمه أن الأمكنة التي  شرع فيها تأدية صلاة الجماعة هي المساجد, وذلك لإظهار شعار الإسلام, وما شرعت عمارة المساجد إلا لذلك, وفي إقامة الجماعة في غيرها تعطيل لها؛ وقد قال الله –تعالى-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}سورة النــور(36)(37). وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}سورة التوبة(18). ففي هاتين الآيتين الكريمتين تنويه بالمساجد وعمارها, ووعد لهم بجزيل الثواب, وفي ضمن ذلك ذم من تخلف عن الحضور للصلاة فيها..

يقول ابن القيم -رحمه الله-: “ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر، وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار”6.

وقد توعد الله من عطل المساجد ومنع إقامة الصلاة فيها, فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} سورة البقرة(114). وفي إقامة صلاة الجماعة خارج المسجد تعطيل للمساجد أو تقليل من المصلين فيها,وبالتالي يكون في ذلك تقليل من أهمية الصلاة في النفوس, والله تعالى يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}؛ وهذا يشمل رفعها حسيا ومعنوياً; فكل ذلك مطلوب. والله نسأل أن يتوب علينا إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المؤمنون: اعلموا -رحمكم الله- أن أقل ما تنعقد به صلاة الجماعة اثنان; لأن الجماعة مأخوذة من الاجتماع, والاثنان أقل ما يتحقق به الجمع؛ ولما روي من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي  قال: (الاثنان فما فوقهما جماعة)7. ولحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رجلاً دخل المسجد وقد صلّى رسول الله   بأصحابه، فقال رسول الله  : (من يتصدق على هذا فيصلي معه؟) فقام رجل من القوم فصلّى معه8. ولقوله  لمالك بن الحويرث: (وليؤمكما أكبركما)9.

ويجوز-عباد الله- للنساء حضور صلاة الجماعة في المساجد بإذن أزواجهن غير متطيبات وغير متبرجات بزينة مع التستر التام والابتعاد عن مخالطة الرجال, ويكن بمعزل عن الرجال; لحضورهن على عهد النبي  ، ولحديث عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- عن النبي   قال: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها) قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد اللّه فسبه سباً سيئاً، ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول اللّه   وتقول: والله لنمنعهن؟!. وفي روية:(لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)10.

أيها لمسلم: إن الأفضل لك أن تصلي في المسجد الذي لا تقام فيه صلاة الجماعة إلا بحضورك; لأنك تحصل بذلك على ثواب عمارة المسجد; فقد قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}سورة التوبة(18).

ثمالأفضل بعد ذلك صلاة الجماعة في المسجد الذي يكون أكثر جماعة من غيره, لأنه أعظم أجراً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده, وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل, وما كان أكثر فهو أحب إلى الله)11; ففيه أن ما كثر جمعه فهو أفضل; لما في الاجتماع من نزول الرحمة والسكينة, ولشمول الدعاء ورجاء الإجابة, لا سيما إذا كان فيهم من العلماء وأهل الصلاح, قال تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}سورة التوبة(108).

ثم الأفضل بعد ذلك الصلاة في المسجد القديم; لسبق الطاعة فيه على المسجد الجديد.

ثم الأفضل بعد ذلك الصلاة في المسجد الأبعد عنه مسافة, فهو أفضل من الصلاة في المسجد القريب؛ لحديث أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال النبي  : (أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى)12. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله  : (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه، ما لم يؤذِ فيه، ما لم يحدث فيه)13.

ولحديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله   فقال لهم: (إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد) قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: (يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم)14.

وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة في أقرب المسجدين أولى, لأن له جواراً, فكان أحق بصلاته فيه, ولأنه قد ورد في الأثر: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)15؛ ولأن تعدي المسجد القريب إلى البعيد قد يحدث عند جيرانه استغراباً, ولعل هذا القول أولى; لأن تخطي المسجد الذي يليه إلى غيره ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه, وإحراج لإمامه, بحيث يساء به الظن16.

فهذا هو حكم صلاة الجماعة، وما يتعلق بها من أحكام وحكم وثمرات، فما على المسلم الكريم إلا أن يبادر إلى الصلوات في أوقاتهن حيث ينادى بهن ليكتب من المؤمنين الصادقين، وليكون من المفلحين..

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 


1 رواه مسلم من حديث أبي مسعود -رضي الله عنه-.

2 روه البخاري ومسلم.                

3 متفق عليه.

4  رواه مسلم.

5 رواه مسلم.

6 الصلاة وحكم تاركها، صـ (166). الناشر: الجفان والجابي – دار ابن حزم – قبرص – بيروت. الطبعة الأولى (1416هـ). تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي.

7 رواه ابن ماجه والحاكم في المستدرك.

8 رواه الترمذي وأبو داود، وأحمد، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم(537). وفي صحيح الجامع، رقم(2652).

9 رواه البخاري ومسلم.

10  الحديث رواه البخاري ومسلم، والرواية الأخيرة انفرد بها مسلم.

11 رواه أحمد وأبو داود, والنسائي من حديث أبي بن كعب، وقال الألباني: “صحيح”؛ كما في صحيح الجامع، رقم (2242).

12 رواه البخاري ومسلم.

13 رواه مسلم.

14 رواه مسلم.

15 أخرجه الحاكم في مستدركه والدارقطني في سننه، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، رقم (6297).

16 راجع: الملخص الفقهي، صـ(136- 143). وتيسير العلام شرح عمدة، المجلد الأول، باب: “فضل صلاة الجماعة ووجـوبها”.