قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون

قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون

الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:

فإن الله خلق الخلق ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وجعل هذه الدار داراً للامتحان والابتلاء، وانقسم الناس إلى قسمين: مؤمن تقي، وكافر شقي، وقد أعد الله لكل منهما داراً في الآخرة.. فمن آمن وعمل صالحاً فهو في جنات ونهر، ومن كفر وأفسد في الأرض فهو في نار وسقر.

إخواني:

إن الله تعالى توعد الكافرين والمنافقين بالنار الحامية، إنها نار لا يقوم أمامها خلق من الخلق، لو وضعت فيها جبال الدنيا لأذابتها فكيف بالمخلوق الضعيف!، ولهذا حذر الله تعالى من سلوك سبيلها، وبيَّن فيما بيَّن في كتابه حال أهلها وشقاءهم فيها، نسأل الله الرحمة والسلامة والعافية. ومما ذكر من صفة أهل النار أنهم يطلبون الغوث والرحمة بعد عذاب طويل شديد، فيكون الجواب بعكس ما يريدون، إنه جواب من الله تعالى لهم باليأس من الخروج من النار، كما قال تعالى عنهم: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ۝ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ۝ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ۝  أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ۝ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ۝ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ۝ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ۝ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ۝ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ۝ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (سورة المؤمنون: 101-111).

عن عبد الله بن عمرو : “إذا أجاب الله أهل النار بقوله: اخسؤوا فيها ولا تكلمون أطبقت عليهم فيئس القوم بعد تلك الكلمة، وإن كان إلا الزفير والشهيق1، قال الأعمش: نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام، قال: فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم، فيقولون: ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين۝ ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال: فيجيبهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون قال: فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون في الزفير، والحسرة، والويل.2

وعن عبد الله بن عمرو  قال: نادى أهل النار: يا مالك ليقضِ علينا ربك قال: فخلى عنهم أربعين عاماً، ثم أجابهم: إنكم ماكثون، فقالوا: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال: فخلى عنهم مثل الدنيا، ثم أجابهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون، قال: فأطبقت عليهم فيئس القوم بعد تلك الكلمة، وإن كان إلا الزفير والشهيق. وعن ابن جريج قال: نادى أهل النار خزنة جهنم: أن ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب فلم يجيبوهم ما شاء الله، ثم أجابوهم بعد حين، وقالوا لهم: ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ثم نادوا: يا مالك ليقض علينا ربك فيسكت عنهم مالك خازن جهنم أربعين سنة، ثم أجابهم إنكم ماكثون، ثم نادى الأشقياء ربهم قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا.. الآيتين؛ فسكت عنهم مثل مقدار الدنيا، ثم أجابهم بعد اخسؤوا فيها ولا تكلمون.

وعن ابن مسعود  إذا أراد الله أن لا يخرج منها أحداً غير وجوههم وألوانهم، فيجئ الرجل من المؤمنين فيشفع فيقول: يا رب، فيقال: من عرف أحداً فليخرجه، قال: فيجئ الرجل من المؤمنين فينظر فلا يعرف أحداً، فيناديه الرجل فيقول: يا فلان أنا فلان، فيقول: ما أعرفك! قال: فعند ذلك يقولون في النار: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيقول عند ذلك: اخسؤوا فيها ولا تكلمون ، فإذا قال ذلك أطبقت عليهم فلم يخرج منهم أحد، وفي رواية قال ابن مسعود: ليس بعد هذه الآية خروج اخسؤوا فيها ولا تكلمون، وذكر عبد الرزاق في تفسيره عن عبد الله بن عيسى عن زياد الخراساني أسنده إلى بعض أهل العلم قال: إذا قيل لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون سكتوا فلا يسمع لهم فيها حس إلا كطنين الطست.3

فهذا حال أهل النار فيها، وهذا جوابهم من ربهم تعالى، نسأل الله تعالى أن يصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً، ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال.

اللهم صل وسلم وبارك على خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 التخويف من النار (ج 1 / ص 62).

2 ذكره الترمذي في سننه. عند حديث رقم (2586).

3 التخويف من النار لابن رجب الحنبلي (ص150-152).