فبما كسبت أيديكم

فبما كسبت أيديكم

فبما كسبت أيديكم

 

الحمد لله مستوجب الحمد برزقه المبسوط، وكاشف الضر بعد القنوط، الذي خلق الخلق، ووسع الرزق، وأفاض على العالمين أصناف الأموال، وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال، ورددهم فيها بين العسر واليسر، والغنى والفقر، والطمع واليأس، والثروة والإفلاس، والعجز والاستطاعة، والحرص والقناعة، والبخل والجود، والفرح بالموجود، والأسف على المفقود، والإيثار والإنفاق، والتوسع والإملاق، والتبذير والتقتير، والرضا بالقليل، واستحقار الكثير، كل ذلك ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وينظر أيهم آثر الدنيا على الآخرة بدلاً، وابتغى عن الآخرة عدولاً وحولاً، واتخذ الدنيا ذخيرة وخولاً، والصلاة على محمد الذي نسخ بملته مللاً، وطوى بشريعته أدياناً ونحلاً، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا سبيل ربهم ذللاً، وسلم تسليماً كثير، أما بعد:

أما بعد:

أيها المؤمنون:

إن وجود الناس على هذه البسيطة، وبقاء الخير في الأرض، وانتشار الأمن في الكون بأسره؛ له مطالب عظيمة، ومقاصد جليلة ينشدها كل فرد منا، كل صغير وكبير، وكل ذكر وأنثى، بل وتطلبها الأمم والقارات وكافة البلدان، ويسعى لتحقيقها كل إنسان مسلم أو غير مسلم على وجه الأرض، يتلمسون في ذلك حياة أسعد، ويبحثون عن عيش أرغد.

وأنى للناس أن يهنئوا بعيشهم، أو ينعموا بأمنهم، أو تستقر أوضاعهم، ولوا بذلوا في سبيل ذلك الأموال الباهضة، ولو سخروا لذلك الجيوش الجرارة الناهضة، أو استعانوا بتكنولوجياتهم المتقدمة والمتطورة لم يحصلوا على عشر من ذلك ولا العشير ولا عشرا ًمن العشر، فإرادة الله القاهرة فوق كل شيء، وهو الذي بيده نواميس الكون، ومقادير كل شيء قال عن نفسه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}1.

نعم هو وعدنا الأمان والاستقرار، وعدنا رخاء العيش، ورغد الحياة، وأن يفتح على عباده خيرات الأرض والسماء، لكنه علق حصوله فجعله مرهون باعتصام الأمة بدينها، بتحاكم الأمة إلى شريعة خالقها، وتمسكها بكتاب ربها؛ السبيل لعزها، والأساس لنهضتها، والسر ليقظتها وتمكنها.

يا عباد الله:

إن قوام حياة الناس وصلاحها إنما هو في طاعة الله، والاستقامة على أمره، والالتزام بشرعه الحنيف، وبالمقابل فإن المعاصي والذنوب التي يقترفها الناس في الليل والنهار لها آثار مدمرة على الفرد والمجتمع، بل والحياة كلها، ولذا لابد أن نعي أن كل انحراف عن شرع الله، وكل اتباع لنزغات الشيطان، وكل جري وراء الشهوات والملذات؛ ليس إلا ركضاً وراء السراب، وضرباً في تيه الشقاء، ومجلبة للضياع والعناء، وسبباً لنكد الحياة، وتغير الأحوال.

وإذا أردتم خبراً وعلماً يقنياً عن ذلك فاسمعوا إلى ربكم وهو يقص في كتابه مثلاً مضروباً، ومساقاً للعظة والعبرة عن تلك القرية التي أسرف أهلها على أنفسهم {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} يضرب الله هذا المثل للعظة والعبرة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }2، يقول سبحانه: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}3 نسال الله العافية والسلامة.

هذه القرية {كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} تنعم بأمن واستقرار وطمأنينة، ورغد من العيش، وماذا { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ} فلا جوع ولا خوف، ولا مسغبة ولا حرمان، فهم في أوج لذاتهم، وغاية سعادتهم، لكن هل شكروا ربهم على هذه النعم المسبلة، وأدوا حق المنعم المتفضل عليم سبحانه.

لقد تجرؤوا في صلف وعتو على محارم الله فانتهكوها، وعلى حدوده وشرعه فتلاعبوا بها، وتنكروا للمنعم العظيم، وتجرؤوا في سفه وغرور على العزيز الحكيم الذي قال محذراً: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ}4 فماذا كانت النتيجة؟

القران الكريم يختصر العقوبة المدمرة، والنهاية المفجعة في كلمتين اثنتين يقول سبحانه: {فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.

أيها الكرام عباد الله:

هاهم قوم من بلاد اليمن كانوا يسكنون جنوبي اليمن؛ بطروا نعمة الله عليهم، كانوا في عزَّة ومنعة وفضل من الله، وخير أرض مخصبة، لا تزال فيها بقية إلى اليوم، وحضارة عريقة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، ثم تغيرت عليهم الحال، نعم إنهم قوم سبأ من ملوك اليمن الذين منهم بلقيس صاحبة سليمان – عليه السلام -، عاشوا في نعمة وغبطة في بلادهم، فرزقهم في اتساع، وزرعهم وثمارهم في ازدياد وإمتاع.

ولقد قص القرآن خبرهم يقول الله – عز وجل – حاكياً عنهم: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}5.

تأملوا ماذا سماها الله {آيَةٌ جَنَّتَانِ} فسخر الله لهم واد عظيم تأتيه سيول كثيرة، فبنوا لذلك سداً محكماً يكون مجمعاً للماء، فيجتمع هناك ماء عظيم، فيفرقونه على بساتينهم التي عن يمين ذلك الوادي وشماله، فتغل لهم تلك الجنتان العظيمتان من الثمار ما تكفيهم وتشبعهم، ومن الظلال ما تريحهم وتنعشهم، حتى أن المرأة كانت تمشي تحت تلك الأشجار وعلى رأسها المكتل أو الزنبيل (وهو الذي تختزن فيه الثمار) فلا تخرج من البستان إلا وقد امتلأ ذلك المكتل من الثمار، ولم تقطف بيدها ثمرة واحدة، تدرون ممه؟

من المتساقط من الثمر لكثرة نضوجه واستوائه.

سبحان الله .. مما أودع فيها من الخير لقد سماها الله {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} حتى ذكروا أنه لم يكن ببلدهم شيء من البعوض ولا البراغيث ولا الذباب، ولاشيء من الهوام، وذلك لاعتدال الهواء، وصحة المزاج، وعناية الله – تعالى- بهم، وربما دخل الطائر بساتينهم فلم يتمكن من الخروج لكثرة الأحراش والأغصان المتشابكة، وعند أسفارهم لا يتزودون لسفرهم، ولا يحتاج الواحد منهم إلى حمل الماء والزاد، فأينما حطت به راحلته نزل فأكل وشرب، نعمة وأي نعمة، وفضل وأي فضل، ولكن هل أدوا حق المتنعم المتفضل عليهم – سبحانه -؟

اسمع الجواب من رب العالمين يقول – سبحانه -: {فَأَعْرَضُوا} أي تنكروا وبطروا فكان الجزاء {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ}6، فأرسل الله عليهم مخلوقاً ضعيفاً ليريهم الجبار قدرته وسطوته على من طغى وتجبر على أمره، وتكبر وعتى على حكمه وقهره، أنه الجرذ، فجعلت تنقب في السد حتى انفجر، فإذا بسيل متوعر متوهج يهجم على مساكنهم فيخربها، ويأتي على جناتهم فيتلفها، ويسير إلى بساتينهم فيفسدها، فلا إله إلا الله ما أشد بطشه إذا غضب، وما أعظم نقمته إذا العباد تهاونوا في أمره.

وتبدلت تلك الجنتان ذات الحدائق المزهرة، والأشجار المثمرة {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيل} فانظر يا عبد الله لما بدلوا الشكر الحسن بالكفر القبيح جاءتهم الفاجعة {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}7.

فلما أصابهم ما أصابهم تفرقوا وتمزقوا بعدما كانوا مجتمعين، وجعلهم الله أحاديث للناس بعد ما عاشوا معززين مكرمين.

أيها المؤمنون: إذن فرغد العيش وسعة الرزق قد يتحول في طرفة عين ولمحة بصر جوعاً يذهب بالعقول، وفقراً تتصدع له القلوب والأكباد، وإذا البطون الملء، والأمعاء المتخمة؛ يتضور أصحابها جوعاً، ويصطلون حسرة وحرماناً، وإذا الأمن الذي كانوا يفاخرون به الدنيا، وينسون في عجب وغرور المتفضل – سبحانه -، والمنعم – جل جلاله – إذا به ينقلب رعباً وهلعاً لا يأمن المرء على نفسه وعرضه فضلاً عن ماله وملكه، والقرآن الكريم حين يعرض بجلاء ووضوح حال تلك القرية الظالم أهلها؛ يقرر أن ما أصابهم هو بسبب ما اقترفته أيديهم.

ويخاطبنا نحن الحاضرين، ويخاطب غيرنا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ويحذرنا – سبحانه – أن نقع في ذات الخطأ الذي وقعوا فيه، فنؤول لذات المآل الذي آلوا إليه.

أيها المسلمون:

إن المجتمعات حين تغفل عن سنن الله؛ فتغرق في شهواتها، وتضل طريقها، وتتنكب على شريعة ربها؛ إنها لا تلوم بعد ذلك إلا نفسها، وإن الاستمرار في محادة أمر الله وشرعه، ومجاهرة العظيم – سبحانه – بمشين الأخلاق والسلوك، وانتشار الفواحش؛ معول يهدم الأركان، ويقوض الأساس، ويزيل النعم، وينقص المال، وترتفع بسببه الأسعار، وتغلو المعيشة، وتحل بالأمة الهزائم الحربية والمعنوية، ولقد أصابنا من ذلك كثير يقول – سبحانه-:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}8، ولقد ذاقت هذه الأمة ألواناً من العقوبات المدمرة التي يشيب من هولها الولدان، وإن صحائف التاريخ خير شاهد على تأثير المعاصي في الأمة، فإذا الأمة كفرت بأنعم الله، واستجابت لداعي الهوى والشيطان؛ أصابها ما أصاب غيرها من العقوبات المنكلة، والمصائب المفجعة، أسردها للعظة والعبرة علَّنا أن نعود ونلجأ إلى ربنا إذ لا ملجأ من الله إلا إليه:

ذكر ابن الجوزي – رحمه الله – خبر الطاعون الذي أصاب مدينة البصرة العراقية فقال: فمات في اليوم الأول سبعون ألفاً، وفي اليوم الثاني إحدى وسبعون ألفاً، وفي اليوم الثالث ثلاثة وسبعون ألفاً، وأصبح الناس في اليوم الرابع موتى إلا قليلٌ من آحاد الناس، قال أبو النفير – وكان قد أدرك هذا الطاعون -: كنا نطوف بالقبائل وندفن الموتى، فلما كثروا لم نقو على الدفن، فكنا ندخل الدار وقد مات أهلها فنسد بابها عليهم.

وذكر ابن كثير – رحمه الله – خبر الغلاء والجوع الذي أصاب بغداد؛ بحيث خلت أكثر الدور، وصدت على أهلها الأبواب لموتهم وفنائهم، وأكل الناس الجيف والميتة من قلة الطعام، وكان الناس يشوون الكلاب، وينبشون القبور، ويخرجوا الموتى ليأكلوهم، وكان الكلب يباع بخمسة دنانير، وظهر رجل يقتل النساء والصبيان، ويدفن رؤوسهم وأطرافهم، ويبيع لحومهم فقتل وأكل لحمه.

وكانت الأعراب يقدمون بالطعام فيبيعونه في ظاهر البلد، لا يتجاسرون على الدخول؛ لئلا يخطف وينهب منهم، وكانوا لا يدفنون موتاهم إلا ليلاً؛ خشية أن تنبش قبورهم فيؤكلون تحت جنح الظلام.

وهذا يا كرام فيض من غيض من جملة ما دهى أولئك القوم، وحل بهم؛ نسأل الله أن لا يأخذنا بالسنيين والأيام، وأن يرفع عنا الغلاء والوباء وسائر الأضرار والأخطار، إنه على ما يشاء  قدير، وبالإجابة جدير، قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون:

إن هذه العقوبات المهلكة، والكوارث المفجعة؛ ليست ضرباً من الخيال، وليس فيها شيء من التهوين والمبالغة، فالله يقول:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}9، ولا تظن أنت يا من نشأت منذ نعومة أظفارك في بحبوحة من العيش، ولم تذق مرارة الجوع؛ أن هذه أساطير وقصص مختلقة، وإن شئتم فاسألوا الآباء والأجداد الذين اصطلوا بنار الجوع، ولهيب الظمأ؛ دهراً طويلاً "يأتيك بالأخبار من لم تزودِ".

وهكذا أيها المبارك: تأمل في أمة الإسلام كيف كانت في سالف عهدها، وماضي دهرها، أمةً موفورة الكرامة، عزيزة الجانب، مرهوبة القوة، عظيمة الشوكة، خضعت لعزها مماليك الدنيا، وأذعن لحكمها أعتى جيوش الكفر والباطل.

فتح قادتها الشرق والغرب، فارس والروم؛ في خمسٍ وثلاثين سنة، حتى امتد ملكهم إلى بلاد السند شرقا،ً وما وراء النهر جنوباً، وإلى بلاد الصين شمالاً.

أما اليوم فتعال وقلب ناظريك في خارطة العالم فأنا ضامنٌ لك ألا تقع عينك على بلدٍ من بلاد المسلمين إلا وجدت فيها من الجراح والدماء، والخراب والألم؛ ما يبكي العيون، إلا وفيها من القهر والاستبداد، والاستعباد والاضطهاد، وتسلط أبناء القردة والخنازير على رقابنا، وخيرات بلادنا؛ ما يدمي الفؤاد، ويفتت الأكباد.

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلدٍ                تجده كالطير مقصوصاً جناحاه

كم شتتنـا يد كنا نشتتهـا                 وبـات يـملكنا شعب ملكناه

استرشد الغرب بالماضي فأرشده             ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه

ها هي العراق والشيشان، والأفغان والصومال؛ فصولٌ حزينة من مأساة أمتنا الجريحة، وأطلال مبعثرة من كرامة وجوهنا المهدرة.

لا تلمح في تلك الديار غير كوخٍ ودمار

وأمام الكوخ آثار رماد وبقايا جمجمة

وصغير أكلت قنبلةٌ مقلته اليمنى وشلت قدمه

وحصانٌ صار لا يعرف معنى الحمحمة

هؤلاء الأبرياء

في زمان الذل ظلوا يصرخون

أين منا المسلمون؟ أين منا المسلمون؟

ها أنتم ترون مسرى نبيكم محمد – صلى الله عليه وسلم – في أرض المقدس يتلفع بنار الأسى والهوان، ويلتحف بسياط المذلة والمسكنة، أكثر من خمسين عام وهو في قبضة يهود، ومن مأساة إلى مأساة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهنا نسأل أنفسنا سؤالاً: متى كان هذا في أمة الإسلام؟ ومتى عرف هذا الهوان في أمة لا إله إلا الله؟

إن هذه المأساة عرفت لما أضاعت الأمة أمر ربها، فصار أمرها إلى إدبار، وعزها إلى ذل، وجثم على صدرها ليلٌ طويل من الإستعمار الكافر، وعدنا نئن تحت وطأة الذل المسلط.

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ثوبان مرفوعاً أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلةٍ نحن يومئذ؟ قال: لا، أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل))10 نسأل الله أن يعز الإسلام، ويرفع رايته خفاقة في العالمين.

أيها المسلمون:

قد يتساءل الغيورون منكم من أين جاءت هذه النكبات؟ وما السبب في نزول هذه المصائب والمدلهمات؟ ولمَ انتشر بين المسلمين خراب العمران والبلاد، وتعطلت المصالح؟ وما بال الغلاء الفاحش يضرب بأطنابه في كل مكان؟ ولماذا  المسلمون في أصقاع الدنيا يشكون الهزائم، ومرارة الزمان؟

لتعلموا يا عباد الله أن الجزاء من جنس العمل يقول سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}11، فالله – سبحانه – لم ينزل مصيبة في الأرض، ولا بلاءً من السماء؛ إلا بسبب فاحشة، إلا بسبب معصية، وها هو الغش والظلم قد انتشر، وكثر أكل الحرام بين الناس، وعادوا يدعون مع الله إلهاً آخر، ويقصدون الأولياء والصالحين يستشفعون بهم، ويطلبون منهم المدد {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}12.

ها هي الصلاة الخمس ضيعت، وتهاون كثيرٌ من الناس بها، بالله كم هم الذين يحافظون على الصلوات الخمس في أوقاتها، أين الناس عندما ينادي المنادي "الله أكبر"؟

ما بالنا فرطنا وتهاونا في هذه الشعيرة العظيمة، وتساهلنا في أدائها؟ أما والله لو كانت لهذه المنارات ألسنة لاشتكت إلى ربها، ولو أودع الله فيها عيوناً لبكت من هجراننا لها.

ما بال الأمة تفشت فيها رذائل الأخلاق، ومستقبح العادات في البنين والبنات؟ {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}13.

نعود فنقول: إن للعقوبات أسبابٌ كثيرة جامعها: المعاصي والذنوب، والتكبر والإعراض، والبعد عن الله، ومجاهرة العظيم بالكفر والفسوق والعصيان.

فيا عباد الله: البدار البدار بالعودة إلى الله – عز وجل-، والتوبة والاستغفار؛ إذا أردنا أن نحسن أحوالنا، وأن يهل المولى – سبحانه – علينا سحائب اللطف واليُمن والبركات، ويرفع عنا هذه المصائب والبلايا، ويدفع بحوله وقوته نقمته وسخطه والرزايا، وإننا والله يا – معشر المسلمين – على شفى هلكة من أمرنا ما دمنا متنكرين لدين الله، فلنتدارك أنفسنا قبل أن يرسل الله – عز وجل – علينا صاعقةً من السماء فتأخذ أولنا وآخرنا يقول – سبحانه -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}14.

والله نسأل أن يرفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه جواد كريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 


1 (سورة يس : 82).

 2(سورة ق:37).

3 (سورة النحل: 112).

4 (سورة آل عمران: 30).

5 (سورة سبأ: 15).

6 (سورة سبأ: 16).

7 (سورة سبأ: 17).

8 (سورة الأنعام:65).

9 (سورة هود:102).

10 – رواه داود برقم (3745).

11 (سورة الروم:41).

12 (سورة الحج:73).

13 (سورة الرعد:11).

14 (سورة الأعراف:96-99).