رجال في سماء التعظيم
الحمد لله رب العالمين، ولاعدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين من ربه – فصلوات الله وسلامه عليه -، تركنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يتبعها إلا كل منيب سالك، أما بعد:
فياعباد الله: لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يزرع في نفوس أصحابه الثقة بالله وتعظيمه، والأنس به، والتسليم له، فلما عظموا الله – جل وعلا -، وآمنوا به، ووثقوا بنصره؛ تربعوا على عرش الدنيا، وأذعنت لهم الإنسانية، وهزوا كيان البشرية.
يقول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: "لقد سبق إلى جنان عدنٍ أقوام ما كانوا بأكثر الناس صلاة ولا صياماً، ولا حجاً ولا اعتماراً، لكنهم عقلوا عن الله مواعظه، فوجلت منه قلوبهم، واطمأنت إليه نفوسهم، وخشعت له جوارحهم، ففاقوا الناس بطيب المنزلة، وعلوِّ الدرجة عند الناس في الدنيا وعند الله في الآخرة". أ هـ.
أبو بكر الصديق – رضي الله عنه -:
لقد كان أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – رجلاً أسيفاً بكّاءً، كثير الوجل والخوف من الله – جل وعلا -، ولم يسبق الأمة بكثير صلاة أو صيام وإنما سبقهم بشيءٍ وقر في قلبه، وهو إيمان عميق، وتصديق وثيق، انظر إليه لما حضرته الوفاة قالوا له: ألا ندعو لك طبيباً، فقال: "إن الطبيب قد رآني فقال: إني فعال لما أُريد".
عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -:
كان في وجه عمر بن الخطاب خطان أسودان من كثرة البكاء، وكان يسمع بكاؤه من آخر الصفوف، وسمع قارئاً يقرأ قوله – تعالى -: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ1 فسقط مغشياً عليه، وبقي أياماً مريضاً يزوره الناس، وكان إذا أظلم عليه الليل يضرب قدميه بالدرة، ويقول لنفسه: ماذا عملت اليوم يا عمر؟ وكان ينعس وهو قاعد، فقيل له: ألا تنام يا أمير المؤمنين؟ قال: "إذا نمت الليل ضيعت حظي مع الله، وإذا نمت النهار ضيعت رعيتي"، وحين حضرته الوفاة يقول لابنه:"ضع خدي على التراب علَّ الله يرى حالي فيرحمني"، ثم بكى عمر الفاروق خوفاً وخشية وقد كان في الأرض الإمام المثالي، وقال بصوت الحزن "يا ليت أني نجوت كفافاً لا عليَّ ولا لي".
ولقي راعياً في يوم من الأيام فقال له: "بعنا شاة من غنمك"، فقال الراعي: الغنم لسيدي وليست لي، قال له عمر: قل له أكلها الذئب، فقال الراعي: فأين الله؟ فأخذ عمر يبكي، ويقول: إي والله أين الله؟ إي والله أين الله؟".
عثمان بن عفان – رضي الله عنه -:
أما عثمان بن عفان – رضي الله عنه وأرضاه – فأمره عجيب، فلقد كان من إجلاله لله، وحيائه من الله؛ لا يغتسل واقفاً وإنما يغتسل جالساً حياء من الله، ولا غرو فهو الرجل الذي تستحي منه الملائكة.
علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -:
أما علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – فقد كان صواماً قواماً، فارساً بالنهار، راهباً بالليل، صلى صلاة الفجر في يوم من الأيام فجلس حزيناً مطرقاً، فلما طلعت الشمس قبض على لحيته، وبدأ يبكي ثم قال: "لقد رأيت أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فما رأيت شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً بين أعينهم كأمثال ركب الماعز من كثرة السجود، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهطلت أعينهم بالدموع، والله لكأنّ القوم باتوا غافلين".
أُبيُّ بن كعب – رضي الله عنه -:
أما أُبيُّ بن كعب – رضي الله عنه وأرضاه – فقد قال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن))، فلما سمع أُبي بالخبر قال في لهفة وشوق وإجلال وإعظام: "أوسمَّاني لك؟" قال: ((نعم))، فانهار أُبيٌّ – رضي الله عنه – بالبكاء2.
طفح السرور علي حتى إنـه من عِظم ما قد سرّني أبكاني
لم يتحمل الموقف، ولم يصمد للنبأ؛ لأنه أيقن ماذا يعني تسميته الله له باسمه، وماذا يعني تردد اسمه في الملأ الأعلى حيث الواحد الأحد، حيث العظمة والكبرياء، حيث سدرة المنتهى، حيث العرش والكرسي.
بلال بن رباح – رضي الله عنه -:
أما بلال – رضي الله عنه وأرضاه – الذي امتلأ قلبه بنور الله، وعُمر فؤاده بجلال الله، وعظمة الله؛ فقد هان لديه كل عظيم، عَذُبَ عنده كل تعذيب، يوضع في رمضاء مكة الحارقة، وتوضع الصخور الكبيرة على صدره؛ وهو يهتف بكلمة المحبة: أحدٌ أحد .. أحدٌ أحد.
خباب بن الأرت – رضي الله عنه -:
عن الشعبي قال: دخل خباب بن الأرت على عمر بن الخطاب، فأجلسه على متكئه، وقال: ما على الأرض أحدٌ أحقُّ بهذا المجلس من هذا إلا رجل واحد، قال له خباب: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: بلال، فقال له خباب: يا أمير المؤمنين ما هو بأحق مني، إن بلالاً كان له من المشركين ما يمنعه الله به، ولم يكن لي أحد يمنعني، فلقد رأيتني يوماً أخذوني، وأوقدوا لي ناراً، ثم سلقوني فيها، ثم وضع رَجُلٌ رجله على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري، ثم كشف عن ظهره فإذا هو قد برص.
لقد كان خباباً – رضي الله عنه – صانعاً للسيوف، فلما علم المشركون بإسلامه حولوا جميع الحديد الذي كان بمنزله إلى قيود وسلاسل يحمى عليها في النار حتى تستعر وتتوهج ثم يطوّق بها جسده ويداه وقدماه، ولكن ذلك كله لم يثنه عن دين الله، وما ازداد به إلا صبراً وثباتاً، وقوة ويقيناً.
خالد بن الوليد – رضي الله عنه -:
إليك هذه الكلمات الموجزة التي نشير بها إشارة عابرة إلى ما كان عليه الصحابة من إيمان عميق، ويقين وثيق، ومن أراد المزيد فما عليه إلا بمراجعة سيرهم وأخبارهم، وقصصهم وأعاجيبهم، وحروبهم وجهادهم؛ ليرى أحداثاً عظيمة، وتاريخاً مذهلاً لأمةٍ زرعت في قلوبها مهابة الله وجلاله.
أما الكلمات فهي لخالد بن الوليد – رضي الله عنه وأرضاه – قالها حين كان يجاهد في سبيل الله، وكانت أعداد العدو هائلة، وجيوشه مذهلة، وقوّته ضاربة، فسئل عن قتاله لأمثال هؤلاء مع قلة جيشه، وضآلة عدده وعتاده فقال: " أرى والله أنا إن كنا إنما نقاتل بالكثرة والقوة فهم أكثر منا، وأقوى علينا، وإن كنا إنما نقاتلهم بالله، ولله؛ فما أرى أن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعاً تغني عنهم شيئاً" أرأيت هذا الموقف لخالد، فلله در خالد الذي كان له من المواقف ما يبهج القلب، وتسر الخاطر، وتمتع الفؤاد.
عبد الله بن حرام – رضي الله عنه -:
انظر إلى قصة عبد الله بن عمرو بن حرام أبي جابر – رضي الله عنهما – حينما أراد أن يتقرب إلى ربه – جل وعلا -، ولم يجد شيئاً يثبت به حبه وإجلاله إلا نفسه، فأقبل في حب وتعظيم، وخشية وإجلال، وخرج للقاء المشركين في غزوة أحد، فقتل شهيداً في سبيل الله – جل وعلا -، فقال – صلى الله عليه وسلم – لولده جابر يوماً: ((يا جابر، ما كلم الله أحد قط إلا من وراء حجاب، وقد كلم الله أباك كفاحاً – أي مواجهة – فقال له: يا عبدي سلني أعطيك، فقال: يا رب أسألك أن تردّني إلى الدنيا لأُقتل في سبيلك ثانية، قال الله له: إني قد سبق القول مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب فأبلغ من ورائي بما أعطيتنا من نعمة، فأنزل الله – تعالى -: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ3.4
أبو الدحداح – رضي الله عنه -:
أما أبو الدحداح – رضي الله عنه وأرضاه – فإنه من شدة إجلاله لربه ومحبته له بذل أغلى ما يملك من أمواله استجابة لمولاه، وطمعاً في نيل رضاه، فقد كان له بستان في المدينة اسمه "بيرحاء" وهو أفضل بساتينها، وفيه ستمائة نخلة، وقد سمع قول الله – تعالى -: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً5، فقال: يا رسول الله، وإن الله – عز وجل – ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أعطني يدك يا رسول الله، فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي – عز وجل – حائطي، ثم ذهب إلى زوجته أم الدحداح، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي – عز وجل -.
هكذا كان دأبهم، وعلى هذا سار حالهم، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من عز في الدنيا، ورفعة في الآخرة.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، إنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وأقم الصلاة.