تشبيك الأصابع في المسجد

تشبيك الأصابع في المسجد

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها يوم يلاقي ربه ويناجيه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل الرسل، وخاتم النبيين صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فإن للمساجد حرمة عظيمة في دين الإسلام لأنها ما بنيت إلا لعبادة الله – تعالى – فيها قال الله – تعالى -: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال۝ رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار۝ ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله1.

ومن المؤسف أن نرى بعض المخالفات الشرعية التي تحصل في الصلاة داخل المساجد، ومن هذه المخالفات تشبيك الأصابع في المسجد، فنقول وبالله التوفيق:

تشبيك الأصابع في اللّغة: المداخلة، فيقال لكلّ متداخلين أنّهما مشتبكان، قال الرازي: شبك  ش ب ك: الشَّبْكُ الخلط والتداخل، ومنه تَشْبِيكُ الأصابع، والشابكة واحدة الشَّبَابِيكِ المُشبكة من الحديد، والشَّبَكةُ التي يُصاد بها، وجمعها شِبَاكٌ، واشْتَبَك الظلام اختلط2.

وفي الاصطلاح تشبيك الأصابع: أن يدخل الشّخص أصابع إحدى يديه بين أصابع الأخرى3.

وتشبيك الأصابع لها ثلاث حالات:

الحالة الأولى: في الصلاة، فيكره التشبيك فيها لما روي عن كعب بن عجرة  : أنّ رسول اللّه  رأى رجلاً قد شبّك أصابعه في الصّلاة، ففرّج رسول اللّه  بين أصابعه، وقال ابن عمر – رضي الله عنهما – في الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه: «تلك صلاة المغضوب عليهم».

الحالة الثانية: تشبيكها في المسجد في غير الصلاة، وفي انتظارها أي حيث جلس ينتظرها، أو في المشي إليها فقد قال الحنفيّة4 والشّافعيّة5 والحنابلة6 بكراهة التّشبيك حينئذ، لأنّ انتظار الصّلاة هو في حكم الصّلاة لحديث: لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصّلاةُ تَحْبِسُه7، وعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ؛ فَلَا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ8، وما روى أبو سعيد الخدريّ  أنّ النّبيّ  قال: إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبّكنّ، فإنّ التّشبيك من الشّيطان، وإنّ أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتّى يخرج منه9.

الحالة الثالثة: تشبيكها بعد الصلاة، وفيها أحاديث صحيحة منها: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ  إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، وَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مُعْتَرِضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا قَالَ يَزِيدُ: وَأَرَانَا ابْنُ عَوْنٍ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى، وَأَدْخَلَ أَصَابِعَهُ الْعُلْيَا فِي السُّفْلَى وَاضِعًا، وَقَامَ كَأَنَّهُ غَضْبَانُ قَالَ: فَخَرَجَ السَّرَعَانُ مِنْ النَّاسِ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: قُصِرَتْ الصَّلَاةُ، قُصِرَتْ الصَّلَاةُ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَلَمْ يَتَكَلَّمَا، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ طَوِيلُ الْيَدَيْنِ يُسَمَّى ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ الصَّلَاةَ…10؛ فهذا يدل على أن تشبيك الأصابع بعد الصلاة لا بأس به؛ لأن النبي  شبك بين الأصابع ظاناً أن الصلاة قد انتهت، قال الحافظ ابن حجر عن الجمع بين هذه الأحاديث وأحاديث النهي: “وَجَمَعَ الإِسْمَاعِيلِيّ بِأَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّد بِمَا إِذَا كَانَ فِي الصَّلاةِ، أَوْ قَاصِدًا لَهَا، إِذْ مُنْتَظِر الصَّلاةِ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي، ثم قال الحافظ: وَالرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا النَّهْي عَنْ ذَلِكَ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ ضَعِيفَة كَمَا قَدَّمْنَا”11 انتهى.

والخلاصة : أن تشبيك الأصابع مكروه لمن خرج إلى الصلاة حتى يفرغ من الصلاة، وأن الجالس في المسجد لا حرج عليه في تشبيك أصابعه إلا إذا كان ينتظر الصلاة فيكره له تشبيكها، أما التشبيك خارج المسجد، وخارج الصلاة؛ فلا بأس به، ومما يدل على ذلك: أن النبي  شبك بين أصابعه كما في الحديث الصحيح لما قال: مثل المسلمين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم؛ كمثل الجسد الواحد، وشبك بين أصابعه عليه الصلاة والسلام12.

الحكمة من النهي عن تشبيك الأصابع:

وقد اختلف في الحكمة في النّهي عن التّشبيك في المسجد فقيل: إنّ النّهي عنه لما فيه من العبث، وقيل: لما فيه من التّشبّه بالشّيطان، وقيل: لدلالة الشّيطان على ذلك، وفي حاشية الطّحاويّ على مراقي الفلاح: حكمة النّهي عن التّشبيك أنّه من الشّيطان، وأنّه يجلب النّوم، والنّوم من مظانّ الحدث، ولما نبّه عليه في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – في الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه: (تلك صلاة المغضوب عليهم)، فكره ذلك لما هو في حكم الصّلاة حتّى لا يقع في المنهيّ عنه، وكراهته في الصّلاة أشدّ13.

والحمد لله رب العالمين. 


1– النور (37). 2مختار الصحاح (1/354). 3– القاموس الفقهي (1/189). 4البحر الرائق شرح كنز الدقائق (4/113). 5مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج (4/44). 6كشاف القناع عن متن الإقناع (2/462). 7أخرجه الإمام مسلم (649). 8سنن الترمذي (386). 9مسند أحمد (10992). 10البخاري (460)؛ والدارمي (1496). 11فتح الباري (1/565). 12صحيح مسلم (2586). 13– حاشية الطحاوي على المراقي (ج2/ص343).