ماذا نتعلم من فريضة الحج؟

ماذا نتعلم من فريضة الحج؟

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:

أيها المسلمون.. عباد الله

تحنّ القلوب، وتهفو النفوس في كل عام في مثل هذه الأوقات إلى حج بيت الله العتيق، ويتمنى كلُّ مسلمٍ أن ينال شرف هذه الزيارة؛ طمعًا في المغفرة، وتلبيةً لنداء إبراهيم   الذي أمره الله بتبليغه للناس كافة فقال تعالى: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (سورة الحج:28).

إنَّ فريضة الحج – عباد الله – ركنٌ من أعظم أركان الإسلام وأعلاها منزلة، ودليل ذلك أن الله سبحانه تحدث عنه في أكثر من موضع من كتابه العزيز، حيث ورد ذكر الحج في: سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة المائدة، وفي سورة الحج وهي السورة الوحيدة التي سُمِّيت باسم ركن من أركان الإسلام، وفصّل سبحانه الحديث عن أعمال الحج في كتابه العزيز ما لم يفصّل في غيره من العبادات، وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنما يدل على عنايته بهذا الركن، ومكانته الكبيرة عنده سبحانه يقول ابن عاشور – رحمـه الله -: “وقد ظهرت عناية الله تعالى بهذه العبادة العظيمة؛ إذ بسط تفاصيلها وأحوالها مع تغيير ما أدخله أهل الجاهلية فيها”(1).

والمتدبِّر في فريضة الحج – إخوة الإيمان – وما فيها من الأعمال والمناسك يتلمّس عددًا من الدروس والفوائد التي يحسُن بنا أن نتوقف معها، ونضعها في عين الاعتبار؛ للإفادة منها وتفعيلها عمليًّا في حياتنا.

فأول هذه الدروس التي نتعلمها من فريضة الحج: ضرورة تحقيق الإخلاص في الأقوال والأعمال:

وقد أشار الله تعالى إلى ضرورة تحقيق الإخلاص في الحج والعمرة فقال سبحانه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ (سورة البقرة:196) يقول الشيخ القاسمي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: “أي: أدّوهما تامّين بمناسكهما المشروعة لوجه الله تعالى”(2)، ويقول الغزالي – رحمـه الله – عن الحاج: “إن من أفحش الفواحش أن يُقصد بيت الله وحرمه والمقصود غيره، فليصحح مع نفسه العزم، وتصحيحه بإخلاصه، وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء وسمعة، فليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير”(3).

والعبد مأمور بتحقيق الإخلاص في جميع عباداته كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (سورة البينة:5)، بل من تمام العبودية أن تكون جميع حركاته وسكناته خالصة لله -تعالى- فقد قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (سورة الأنعام:16).

لذلك ينبغي -عباد الله- أن نجتهد في تحقيق هذا العمل القلبي العظيم، والركن الركين؛ حتى يقبل الله أعمالنا، فإن الله سبحانه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لله، صوابًا على هدى النبي  كما روي عن الفضيل رحمه الله.

وكذلك – عباد الله – من الدروس التي نتعلمها من فريضة الحج: تحقيق العبودية والانقياد لله تعالى:

فالله سبحانه شرع لعباده عددًا من الشرائع والعبادات، ومن تمام عبودية العبد أن يقوم بهذه الشرائع حتى وإنْ تعارضت مع هواه يقول الشاطبي -رحمـه الله-: “المقصد الشرعي من وضع الشريعة: إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا”(4).

وهذه العبودية والانقياد تظهر بوضوح من بداية مناسك الحج إلى آخرها، حيث ارتداء الحاج لباس الإحرام، والطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة؛ فهو يقوم بهذه الأعمال تعبُّدًا وانقيادًا لأمر الله ​​​​​​​ متأسيًا فيها برسوله .

يقول الغزالي – رحمه الله – عن أعمال الحج: “بمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرِّق والعبودية… فإن ترددات السعي، ورمي الجمار، وأمثال هذه الأعمال، لا حظ للنفوس ولا أُنس فيها، ولا اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون في الإقدام عليها باعثٌ إلا الأمر المجرد، وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط”(5).

أيها المسلمون: ومن الدروس التي نتعلمها من فريضة الحج: تعظيم شعائر الله سبحانه:

فشعائر الله: هي أعلام دينه الظاهرة، وأوامره ونواهيه التي تعبَّدنا بها، وتعظيم هذه الشعائر علامة على قُرب العبد من ربه، ودليل ساطع على تقواه، وهى مقصد عظيم من مقاصد الحج؛ لذلك قال الله سبحانه في الحديث عن أعمال الحج: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (سورة الحج: 32).

فالمسلم عندما يعتاد على تعظيم شعائر الله المتمثلة في أعمال الحج؛ من الطواف، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار، وذبح الهدي وغيرها، فإن ذلك يربِّي في نفسه تعظيم أوامر الله وتقواه في كلِّ وقت.

ومن الدروس التي نتعلمها من فريضة الحج كذلك – عباد الله -: الموازنة بين المصالح الدنيوية والأخروية:

فالموازنة بين المصالح الدنيوية والمصالح الأخروية من محاسن الإسلام، ومن مقاصد الشريعة، وذلك يظهر جليًّا في كثير من الشرائع والعبادات، ومن ذلك عبادة الحج حيث أباح الله سبحانه للحاج أن يجمع بين أداء المناسك وبين التجارة والتكسُّب، بشرط أن لا تؤثر على المقصد الأصلي ألا وهو العبادة فقال ​​​​​​​ : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ (سورة البقرة: 198)، وقال أيضًا: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ (سورة الحج:28) يقول الشيخ السعدي – رحمه الله -: “أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسُّب في مواسم الحج وغيره ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب؛ إذا كان المقصود هو الحج، وكان الكسب حلالًا”(6).

نسأل الله سبحانه أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها المسلمون:
ومن جملة الدروس التي نتعلمها من فريضة الحج: الحرص على الدقة والانضباط:

فالإسلام دين الانضباط، جميع شرائعه تعلِّمُنا الانضباط والدقة، ومن ذلك فريضة الحج هذه الفريضة التي تقوم بناءً على المواقيت الزمانية والمكانية.

فالمواقيت الزمانية: هي الأشهر التي حددها الله سبحانه للحج فقال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ (سورة البقرة:197) وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، وكذلك حدد سبحانه ميقات الوقوف بعرفة، وميقات رمي الجمار، وغيرها من أعمال الحج.

أما عن المواقيت المكانية فهي الأماكن التي حددها النبي للإحرام، فإذا مرَّ بها الحاج يُشرع له أن يحرم، ويرتدي ملابس الإحرام، ويمنع نفسه عن بعض الأشياء التي كانت مباحة قبل الإحرام.

والالتزام بهذه المواقيت الزمانية والمكانية بمثابة التدريب العملي للمسلم على الدقة والانضباط في جميع أمور حياته بعد الحج.

إخوة الإيمان: ومن دروس الحج وثماره العظيمة: المداومة على ذكر الله سبحانه:

فالذكر من أحبِّ العبادات إلى الله  وأعظمها أجرًا عنده، وقد ربط سبحانه الذكر بكثيرٍ من العبادات ومن أبرزها عبادة الحج، ويظهر ذلك واضحًا جليًّا في القرآن الكريم حيث ربط سبحانه الحديث عن مناسك الحج بذكر الله في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ۝ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۝فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (سورة البقرة:198-200)، وقال تعالى: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ نضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ۝ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ (الحج:27-28).

يقول ابن القيم – رحمه الله – عن الذكر: “هو روح الحج، ولُبُّه، ومقصوده كما قال النبي : إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله (رواه أبو داود)(7).

فمن اعتاد على ذكر الله – إخوة الإيمان – في الطواف، وفي السعي، وعند رمي الجمار، وعند الوقوف بعرفة، وعند ذبح الهدي، وفي المشاهد جميعًا؛ فمن الصعب عليه أن يجف لسانه عنه بعد الحج وقد ذاق حلاوة الذكر، وتعلّق قلبه بالمذكور سبحانه.

نسأل الله سبحانه أن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.

إخوة الإيمان والإسلام

إنَّ الفوائد التي نتعلمها من فريضة الحج، والتي ينبغي أن يظهر أثرها في حياتنا لا تقف عند حصر، بل هي متجددة في كل ساعة وشعيرة تمر على الحاج في أشرف بقاع الأرض، حيث تحيط به النفحات، وعبق تاريخ الأنبياء والمرسلين، عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم.

نسأل الله سبحانه أن يرزقنا وإياكم حج بيته الحرام، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

اللهم وفّق الحجاج والمعتمرين والزائرين، واحفظهم وتقبل منهم يا أكرم الأكرمين.

اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واحْمِ حوزة الدين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


  1.  التحرير والتنوير: (2/ 231).
  2.  محاسن التأويل للقاسمي: (2/ 63).
  3.  إحياء علوم الدين: (1/ 267).
  4.  الموافقات: (2/ 289).
  5.  إحياء علوم الدين: (1/ 266).
  6.  تفسير السعدي: (92).
  7.  مدارج السالكين: (2/ 399).