من مقاصد الحج

من مقاصد الحج

الحمد لله الذي شَرَعَ العبادات لمقاصدَ عظيمة، وأسرار بليغة، وفوائد جليلة، وغايات نبيلة، ومنافع عظيمة، عاجلة وآجلة في الدنيا والآخرة.

وصلاةُ اللهِ وسلامُهُ على من أظهر هذه المقاصد وجلّاها، وبيَّن المصالح وأعلاها، ودرأ المفاسد وقَلَاهَا، وأرشد الأمة ورعاها، وقاد المسيرة وحباها، ما طلعت الشمس في ضحاها، والقمر إذا تلاها، أما بعدُ:

عباد الله: لقد جَعَلَ الله تعالى للعباداتِ مقاصد، منها ما يعرفه الخلق، ومنها ما لم يدركوه، وجَعَلَ هذه المقاصد تتنوع بين كليات تتعلق بالغايات العُظمى منها، وجزئيات تتناول مقصد كل عبادة على حدة، وعلى المسلم أنْ يتعرّف على مقاصد الدين، وأسرار التشريع، فإنّ معرفة ذلك: تزيد المرء إيمانًا، وتشحذ الهمم، وتقوِّي النفوس، وتدفع الغفلة والتغافل، وتطرد الشيطان ووسوسته، ويُدْرِكُ بها المسلمُ أنّ للعبادات حِكَمًا وأسرارًا، فيُسارع إلى فعلها وامتثالها بنفس راضية، وقلب مخبتٍ خاشع، كما يُدرك أنّ الله حكيمٌ في تشريعاته، عليمٌ بخلقه وما يصلحهم.

أيها المسلمون: إنَّ حجَ بيت الله الحرام أحدُ أركان الإسلام، ومبانيه العظام، فرضه الله على عباده مرةً في العمر من استطاع إليه سبيلاً، لا ليستكثر بهم من قلة، ولا ليستعزّ بهم من ذلة؛ فهو الغني الحميد قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97].

فالحج بالنسبة للمسلم مدرسةٌ إيمانيةٌ، تربويةٌ، ومَعْلَمٌ مُشْرِقٌ في حياته، وحدثٌ تاريخي، لا يزال يلهج بذكره، ويتذكر خواطره وذكرياته؛ حيث يمضي الحاج أيامًا في رحلة قدسية عظيمة، يجتمع له فيها شرف الزمان، وشرف المكان، وشرف العمل، فيشهد منافع عظيمة متعددة، كما قال تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج: 28] ولنتأمل كلمة (منافع) حيث جاءت بلفظ النكرة؛ والتعبير بالنكرة يدل على أنها منافع عظيمة لا يقدر قدرها؛ ولا تدرك نهايتها؛ فهي منافع: دينية ودنيوية، مادية ومعنوية، فالحج ذو مقاصد وأبعاد: إيمانية، ونفسية، وأخلاقية، وتربوية، وسياسية، واقتصادية.

عباد الله: إنّ هذه العبادة الجليلة في حقيقتها: مدرسة عظيمة، تحمل في طيَّاتها الكثير من المقاصد والحِكَم والأسرار، نذكر بعضها فيما يلي:

فمنها بل أهمها: إظهار توحيد الله: إنّ من أعظم مقاصد الحج ومنافعه – يا عباد الله – تحقيق التوحيد الخالص لله رب العالمين، فصلاح العقيدة سببٌ لكلّ صلاح، وفسادها سببٌ لكل فساد، فالحج إعلان للتوحيد منذ اللحظة الأولى التي يتلبّس فيها الحاج بالنسك، وحتى اللحظة الخيرة التي يفرُغ فيها منه.

فتلبيتُهُ توحيدٌ، وطوافُهُ توحيدٌ، وسعيه توحيد، ووقوفه يوم عرفه توحيد، ومبيته عند المشعر الحرام توحيد، ورميه الجمار توحيد، وحلقه أو تقصيره توحيد، ونحره توحيد، وإفاضته توحيد، ووداعه توحيد كما قال ​​​​​​​ : قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝  لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163].

وما التلبيةُ التي يلهَج بها الحجيج، وتهتزّ لها جنباتُ البلدِ الأمين، وتجلجِل بها المشاعر المقِدسة؛ إلا عنوانُ التوحيد والإيمانِ، ودليلُ الطاعة والإذعان.

وقد وصف جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – إهلالَ رسول الله قائلاً: أهلَّ رسول الله بالتوحيد: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك(1).

بل إنَّ أساس البيت إنما أُقيم على التوحيد، ولأجلِ التوحيدِ رُفعَت قواعده من أوّل وَهلة، فكان الطواف به، والحج إليه تذكيراً بهذا الأصل العظيم قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً [الحج:26].

أيها الحاج الكريم: لتعلم: أنه لا خير في الدنيا بلا توحيد، ولا نصيب في الآخرة بلا توحيد، فمن أجل التوحيد: أُسست الملة، ومن أجله شُرعت القبلة، ومن أجله خُلقت السماوات والأرضون، ومن أجله خلقت الأنس والجن والملائكة أجمعون، وصحت به جميع الطاعات والعبادات

فَلِواحِدٍ كُنْ وَاحِدًا فِي وَاحِدٍ أَعْنِي طَرِيقَ الحَقِّ وَالإِيمَانِ(2)

فمن هو العبد الموحد؟ العبد الموحِّد هو من أقرَّ لله بالربوبية المطلقة، والألوهية الخالصة، وأثبت لربه أسماءه الحسنى، وصفاته العليا، فهو موصوفٌ بالجمال، ونعوت الكمال.

والعبد الموحد يعلن بكل قوة ويقين: أني لا أعبد إلا الله، ولا أخضع لأحد سواه، ولا أدعو إلا هو، ولا أذبح إلا له، ولا أقسم إلا به، ولا أتوكل إلا عليه، ولا أخاف إلا منه، وأنّ مقاليد السماوات والأرض بيده، وأنّ مفاتيح الغيب والكبرياء والجبروت له وحده، فالحكم حكمه، والأمر أمره، والشرع شرعه(3).

عباد الله: إنّ تجريد العبادة من الشريك مطلوب في كل عمل، لكن أتدرون – يا رعاكم الله – لمَ خصَّ المولى – جل وعلا – الحج والعمرة بقوله لله في قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196]؟

الجواب: من أجل أنّ المشركين كانوا يتقرّبون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى أصنامهم، فخصَّها بمزيد عناية بنسبتها لله – تعالى – حثًّا على الإخلاص فيهما، ومجانبة ذلك الاعتقاد المحظور(4).

وأيضاً لأن: الحج والعمرة فيهما من المشقة الظاهرة، ومفارقة الأوطان ما يظهر أمره للناس، ويعظم عندهم فيه الثناء؛ لعِظَم الجهد والتضحية – خاصة عند قلّة الظَّهر، وبُعْد الشُّقة – وهذا قد يُغري النفس بمدح الناس، وحُسن ثنائهم، فتقع في شَرَك الرياء، وحبائل التسميع؛ فوجب التأكيد على الإخلاص، وقد رُوي عن بشر بن الحارث أنه قال: “الصدقة أفضل من الحج والعمرة والجهاد” ثم قال: “ذاك يركب ويرجع ويراه الناس، وهذا يعطي سرًّا لا يراه إلا الله – عز وجل “(5).

أيها الموحدون: ومع تقرُّر هذا الأصل العظيم ووضوحه إلا أنّ بعضَ الناس يأبى إلا أن يشوبَ توحيده بما يُفسد صفاءه، ويخدِش بهاءه؛ فهل يغني شيئًا دعاءُ القبور، والتمسُّح بالأحجار والستور، وسؤالها قضاءَ الحاجات، ودفعَ الشرور؟!

كلاّ، ثمّ كلاّ، بل هو الشر المستطير، والشرك بالعلي الكبير – سبحانه وتعالى – عما يصفون.

إنّ المسلم الغيورَ ليذرِف الدموع الحرّاء السِّجام على ما آلَ إليه في ذلك حالُ بعض أهلِ الإسلام من الإخلال بعقيدة التوحيد، فالله المستعان.

أيها المسلمون: إنّ الواجبَ على أهلِ الإسلام عمومًا، وقاصِدي المسجدِ الحرام خصوصًا؛ أن يكونوا مثلًا عاليًا في إسلام الوجه لله، وإفراده بخالص التوحيدِ، وصحيح العبادة، مع التمسُّك الجادّ بالسنة، ومجانبة البدَع والأهواء المضلَّة، والأفكار المنحرِفة، والتحلّي بمنهج الإسلام الحقِّ كما قال الله سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].

ومن مقاصد الحج العظيمة: أنه تتجلى فيه مظاهر المساواة، والوحدة الإسلامية في أبهى صورها، وأجلى معانيها؛ ويتضح ذلك من خلال الحجيج المجتمعين في صعيد واحد، ومظهر واحد، ومكان واحد، على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وتعدد ألسنتهم، ولغاتهم، يرتدون لباسًا واحدًا، ويعبدون إلهًا واحدًا، لا فرق بين صغير وكبير، وغني وفقير، ورئيس ومرؤوس، يعانق المسلم الغربي أخاه المسلم الأفريقي، ويحتضن الآسيوي آخاه المسلم الأوروبي، وقد تناسى الجميع تماماً: كافة الوثائق الرسمية، والهويات الشخصية، والانتماءات الوطنية، وانصهرت كل العلائق في بوتقة الإسلام العظيمة إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92].

وفي هذه المظاهر كلها إعلان لسقوط كل الدعوات الأرضية، والعصبيات الجاهلية، والشعارات القومية، والنعرات القبلية، والنداءات الوطنية، والتي ما انفك يدعو إليها الذين ملؤوا الدنيا ضجيجًا بدعواهم المتهالكة، وأطروحاتهم الفارغة، متناسين أن قيمة الإنسان ووزنه ورفعته إنما هو بمقدار تمسكه بالإسلام، وانتمائه  إلى التقوى والإيمان، واعتزازه بالقيم التي جاء بها القرآن يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].

فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود؛ إلا بالتقوى: إنه المعيار الأصيل، والمقياس الدقيق لتفاضل الناس وتمايزهم، وهو ذاك المعيار الذي رفع بلالاً وعماراً وابن مسعود، ووضع أبا جهل ومسيلمة وغيرهم، وما فقد المسلمون عزتهم، ولا غابت هيبتهم، واستأسد عدوهم؛ إلا يوم تأرجح ميزان العدل في حياتهم، وسادت الأهواء والتفرُّق في أوساطهم، وارتفعت أسهم الطبقية في مجتمعاتهم(6).

فيا أمة الإسلام: ويا حجَّاج بيت الله الحرام، ويا مَن أتيتم من كلِّ فجٍّ عميق، واجتمَعتم في أرجاءِ هذا البيت العتيق؛ هذه قِبلتكم قِبلَة واحدة، وهذه أمّتكم أمّة واحدة؛ وأنتم أمام قِبلتكم تجتَمعون، وحيثما كنتم إليها تتوجّهون، وشطرَها تيَمِّنون؟! فاحذروا أسباب الفُرقة والعداوة، والشحناء والبغضاء!

أما تعلمون وتوقِنون: أنّ في مخالفتكم ما أُمِرتم به من الاعتصامِ بحبل الله جميعًا ذهابَ ريحكم، وضياعَ هيبتكم، وتسليطَ عدوِّكم عليكم؟! كما قال الله ​​​​​​​ : وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ… [الأنفال:46].

أيّها الميمِّمون وجوهَكم شطرَ حرمِ الله، ألم يئِن الأوانُ أن تتوحَّدوا فلا تتنافروا، وتتفاعَلوا مع قضايا أمتكم فلا تتخاذَلوا؟! وليس لغيرِ ذلك من جدوًى تستنقِذكم مما ألمَّ بكم(7).

أيها المسلمون: إنّ علينا جميعًا أن ننقلَ ما شاهدناه في مناسك الحجّ من مشاعر الوحدة والتلاحم، والتآخي والعدل، والمساواة إلى واقعِنا اليوميّ، وميداننا العملي، فما الحجُّ إلا نقطةُ انطلاقةٍ لنشر حِكَمِه بين المسلمين في شَتى الأقطار، إنّه ينبغي لكل حاج أن يرجعَ إلى قومه وهو يحمِل في نفسه معنى الوحدةِ، وحاجة الأمة إليها، وأنّ هذه الوحدَة لا يمكن أن تتحقَّق في أرضِ الواقع على اختلافٍ في مصادِر التلقّي ما لم يكن المصدَر واحدًا وهو كتاب الله، وسنّة رسوله (8).

ومن مقاصد الحج العظمى: حصول التقوى، التي هي الحاجز عن وقوع الإنسان في المعاصي، وهي كذلك المحرك الفعّال لهذه النفس؛ حتى تنطلق من قيود الأرض، فترفرف في علياء السماء، وتنطلق في أفعال الخير، فتسمو بها الضمائر، وترقّ المشاعر، وتُقبَل الشعائر.

فالحج من أعظم المواسم التي يتربّى فيها العبد على تقوى الله – عز وجل -، وتعظيم شعائره، وحرماته.

  • قال تعالى في آيات الحج: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحج:32].
  • وأَمَرَ الحجيج بالتزود من التقوى فقال سبحانه: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة:197]. يقول ابن رجب – رحمه الله -: “فما تزوّد حاجٌّ، ولا غيره بأفضل من زاد التقوى، ولا دُعي للحاج عند توديعه بأفضل من التقوى”(9).
  • وبيّن الله – سبحانه – أن المعنى الذي شرع من أجله الهدي والأضاحي: إنما هو تحصيل هذه التقوى فقال سبحانه: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ[الحج:37].
  • كما بيّن سبحانه في الحديث عن المناسك والشعائر في سورة الحج أنّ الغرض من الشعائر تحقيق التقوى، وأنّ تعظيمها دليل على التقوى، والحج كله شعائر، فقال: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
  • وفي آيات صد المشركين للمؤمنين عن المسجد الحرام من سورة الفتح: بيان ما منَّ الله – تعالى – به على أهل الإيمان من لزوم كلمة التقوى وهي لا إله إلا الله، وكفى بالتقوى شرفًا أن يكون شعار التوحيد كلمتها، وكفى بالمؤمن شرفًا أن يلزمها، فتحجزه عما يناقضها، أو يخل بها قال الله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا [الفتح:26].
  • وختم الله آيات الحج بالأمر بالتقوى فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203] وذلك إيجاب من الله على الحاج أنْ يَتَّقي فيما بقي من عمره، وألا تخدعه الأماني، ووساوس الشيطان، فيقول: سأُكَرِّر الحج؛ حَتَّى يغفرَ لي مرة ثانية، فإنَّه لا يدري هل يتمكَّن مما نوى أو يتوفاه الله وهو مخلٌّ بزاد التقوى؟

وبهذا ندرك أن التقوى كانت حاضرة في الآيات التي تناولت مناسك الحج والعمرة، والحرم، والإحرام؛ ليلزم المؤمن التقوى في كل أحيانه، وبخاصة في الأشهر الحرم، والبلد الحرام، وحال التلبُّس بالإحرام.

عباد الله: ومن مقاصد الحج العظيمة: تذكُّر الآخرة: فإنّ للحج ارتباطًا كبيرًا باليوم الآخر من حيث ضخامة الأعمال، وشدة الزحام، وكثرة الجمع؛ حتى إنّ السورة المسمّاة بسورة الحج، وقد تضمّنت خبر بناء البيت، وأذان الخليل بالحج، وذكر الضحايا والهدايا، وأعمال القلوب في المناسك؛ قد افتتحت بمشاهد القيامة فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ۝ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2] إشارة إلى ارتباط الحج بالآخرة.

فمن منافع الحج وفوائده العظيمة:

  • أنه يُذكِّر بالآخرة، ووقوف العباد بين يدي الله يوم القيامة؛ لأن المشاعر تجمع الناس في زي واحد، مكشوفي الرؤوس، من سائر الأجناس، في صعيد واحد، ووقت واحد، ومظهر واحد، راغبين راهبين، إظهارًا لعظمة رب الأرباب، وتذكيرًا بيوم الحشر والحساب.
  • وبالإحرام يتجرّد الحاج من ثيابه، ويلبس الإزار والرداء، فيترك ثياب الزينة والطيب، ويُمسك عن شعره وأظفاره، وهذا يذكّره بالموت والكفن، وترك الدنيا وزينتها، والوحدة في القبر، فلا رفيق له فيه سوى عمله، ويتذكر الحاج وهو في هذه الحال قول الله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
  • والحج من العبادات التي تكثر فيها التنقلات بحسب الزمان والمناسك، من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، ومن عمل إلى آخر، مما يُذكِّر بتنقلات يوم القيامة.
  • كما أنّ الله – تعالى – قد اختار لأداء المناسك بقعة هي من أشد بقاع الأرض حرارة، وهذا يذكّر الحجاج بحرّ يوم القيامة، وقرب الشمس من رؤوس الخلق، وغزارة العرق فيه.
  • كما أنّ تدفق الجموع على عرفة وامتلاء صعيد عرفة بهم، وقد استقروا به، وهم يجأرون إلى الله – تعالى – بالدعاء، يذكِّر المسلم بالجمع العظيم، والموقف الكبير بين يدي الله – عز وجل – حين يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس (10)(11) كما في الحديث عن النبي .

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، أما بعد:

عباد الله: ومن مقاصد الحج، وأهدافه، وغاياته: أنه مدرسة أخلاقية: يكتسب المسلم من خلال الحج مكارم الأخلاق المتنوعة: أخلاقه مع الله، ومع نفسه، ومع الناس، ومع الكون الذي يعيش فيه.

ففي الحج تعويد النفس على الصبر، والحلم، والسخاء، والعفة، والتواضع، والتسامح.

وفي الحج تدريب للمسلم على المبادئ الإسلامية العالية، والخلق الإسلامي الرفيع، فلا شقاق، ولا شحناء، ولا غيرها من مساوئ الأخلاق قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:١٩٧].

فيتأدب الإنسان مع الكون من حوله:

مع الحجر فيُقَبِّل ما أُمر بتقبيله.

ومع الشجر فلا يقطع.

ومع الطير فلا يروّع.

ومع الصيد فلا يقتل.

ومع المكان فلا يلحد فيه، أو يظلم وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].

ومع الإنسان فلا يسب أو يشتم.

ومن فؤائد الحج وثماره: التدرُّب على تحمل المتاعب، وركوب الأخطار، وتحمل المشقات، ومفارقة الأهل، والتضحية بالراحة والدعة والحياة الرتيبة بين الأهل والأصحاب قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27].

ومن المقاصد الجليلة في الحج: تعلُّم المسلم الانضباط:

  • وذلك من خلال تقيُّده بالمواقيت الزمانية والمكانية، فالحج له زمن محدد لا يجوز للمسلم أن يتعداه قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] وهناك الأيام المعدودات: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].
  • ومن خلال تقيّده باللباس المعين، فيتجرّد المحرم من الثياب، مكتفيًا بإزار ورداء.
  • ومن خلال استشعار الحاج أنه في مكان له حرمته وقدسيته وهو مكَّة، ومن ثمَّ كان لها من الأحكام الخاصة ما تجب مراعاتها لحرمتها، وهو ما يجعل الحاجَّ أو المعتمر بها يَضبط نفسه غاية الانضباط؛ حتى يَسْلَم منه حيوانُها، ونباتُها، وجمادُها، وكلُّ ما فيها.
  • ومن خلال ضبط الوقت: فالحاج وقته موزع على أعمال مختلفة، ولا بد أن يُؤدي كل عمل في وقته المحدد له، وبهذا يكتسب المسلم من خلال تجربة الحج مهارةَ: ضبط النفس، وضبط الوقت، وضبط المشاعر والسلوك، والانضباط الذَّاتي في حياته العملية بعد الحج، وتغيير سلوكياته تغييرًا إيجابيًّا.

عباد الله: كانت هذه بعض المقاصد العظيمة التي يشتمل عليها الحج، وهي لا تحصل للعابد إلا إذا أسّس عبادته على التوحيد؛ بأن يصرف كل هذه العبادات لله وحده؛ وأن يحسن أداءها، بحيث يأتي بها على الوجه الذي شرعه الله تعالى على لسان نبيه محمد .

ألا فاتقوا الله عباد الله، وعظِّموا شعائرَه؛ تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة، ثم اعلموا أنّ الله – جلَّ وعلا – أمرنا بأمر عظيم ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين…

اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وسلِّم الحجاج والمعتمرين…

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


  1. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي  برقم (1905).
  2. متن القصيدة النونية لابن القيم (ص: 219).
  3. موسوعة الخطب المنبرية (2) بتصرف.
  4. محاسن التأويل للقاسمي، دار الفكر (3/143).
  5. حلية الأولياء (8/399).
  6.  موسوعة الخطب المنبرية (3) بتصرف.
  7. موسوعة خطب المنبر (ص: 3768) بتصرف.
  8. موسوعة خطب المنبر (ص: 3768) (ص: 4620) بتصرف.
  9. ([9]) لطائف المعارف (ص: 417).
  10. أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء، في باب قول الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [نوح: 1] برقم (3340) ومسلم في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها برقم (194).
  11.  بين الحج ويوم القيامة المصدر: مجلة البيان، إبراهيم بن محمد الحقيل. بتصرف.