المسيح الدَّجَّال

 

المسيـح الدَّجَّـال

 

الحمد لله الذي يسر لنا الأسباب المانعة من الضلال والافتتان, ووضح لنا الفتن وبين لنا الأسباب التي نتحصن بها أعظم بيان, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك المنان, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى من بني عدنان, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة مستمرة باستمرار الزمان, وسلم تسليماً, أما بعد1:

فإن علامات الساعة الكبرى هي التي تدلُ على قرب قيام الساعة، فإِذا ظهرت كانت الساعة على إِثرها، وأَهل السّنة يؤمنون بها كما جاءت عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ومن تلكم العلامات التي لا يشك مسلم فيها:

فتنة المسيح الدجال:

إن ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من أشراط الساعة وأماراتها حق يجب اعتقاده, وقد ذكر للساعة أشراطاً كثيرة منها ما مضى ومنها ما هو حاضر ومنها ما هو مستقبل, وأبلغ ما يكون من أشراطها وأعظمه فتنة هو فتنة المسيح الدجال, وسنتطرق هنا إلى معرفة شيء عنه فنقول:

لفظ الدجّال على وزن فعّال بفتح أوله والتشديد من الدجل وهو التغطية، وأصل الدجل معناه: الخلط، يقال: دجل إذا لبس وموه، وجمع دجال: دجالون ودجاجلة, وسمي الدجال دجالاً؛ لأنه يغطي الحق بباطله، أو لأنه يغطي على الناس كفره بكذبه وتمويهه وتلبيسه عليهم.

والمراد بالدجال هنا: الدجال الأكبر الذي يخرج قبيل قيام الساعة في زمن المهدي وعيسى -عليه السلام- وخروجه من الأشراط العظيمة المؤذنة بقيام الساعة، وفتنته من أعظم الفتن والمحن التي تمر على الناس، ويسمى مسيحاً؛ لأن إحدى عينيه ممسوحة, أو لأنه يمسح الأرض في أربعين يوماً، ولفظة المسيح تطلق على الصديق، وهو عيسى -عليه السلام- وعلى الضليل الكذاب وهو الأعور الدجال.

قال القرطبي: "واختلف في لفظة المسيح لغة على ثلاثة وعشرين قولاً، ذكرها الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه مجمع البحرين، وقال: لم أر من جمعها قبلي ممن رحل وجال ولقي الرجال"2.

والمقصود بالمسيح هنا مسيح الضلالة الذي يفتن الناس بما يجري على يديه من الآيات، كإنزال المطر وإحياء الأرض، وبما يظهر على يديه من عجائب وخوارق للعادات، وأما مسيح الهدى فهو عيسى ابن مريم -عليه السلام-, وقد تواترت الأحاديث الصحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذكر خروج الدجال في آخر الزمان والتحذير منه، حيث وصفه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمته وصفاً دقيقاً لا يخفى على ذي بصيرة، كما حذر منه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قبله أممهم ووصفوه لهم أوصافاً ظاهرة. ومن الأحاديث الواردة في ذلك حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال : « قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم ذكر الدجال فقال: (إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ, وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ, لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ, وَلَكِنْ سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ)3. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ الدَّجَّالِ حَدِيثًا مَا حَدَّثَهُ نَبِيٌّ قَوْمَهُ؟ إِنَّهُ أَعْوَرُ, وَإِنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ مِثْلُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ, فَالَّتِي يَقُولُ إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّار, وَإِنِّي أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ)4.

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر يوماً بين ظهراني الناس الدجال فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ, أَلَا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى, كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ)5.

وقوله: (عنبة طافية): هي الحَبَّة التي قد خَرجَت عن حَدّ نَبتَةِ أخَوَاتها فَظَهَرت من بَيْنِها وارْتَفعَت, وقيل: أرَادَ به الحَّبَة الطَّافيةَ على وجْه الماءِ شَبَّه عينَه بها, واللّه أعلم6.

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً حديثاً طويلاً عن الدجال فكان فيما يحدثنا به أنه قال: (يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ, فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ7 الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ, فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ, فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدِيثَهُ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا, فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ, فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ, فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ)8.

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَمَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ك ف ر)9.

قال الإمام النووي -رحمه الله-: الصحيح الذي عليه المحققون أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقة جعلها الله آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه وإبطاله، ويظهرها الله تعالى لكل مسلم كاتب وغير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته، ولا امتناع في ذلك10.

وفي رواية للبخاري: (مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ, إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ)11, وعلى كل حال فكلا الأمرين يسير على الله.

وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: "ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدجال ذات غداة, فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل, فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: (مَا شَأْنُكُمْ)؟ قلنا: يا رسول الله, ذكرت الدجال غداة فخفَّضت فيه ورفَّعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: (غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ, إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ, وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ, وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ, إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ, كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ, فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ, إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا, يَا عِبَادَ اللَّهِ, فَاثْبُتُوا), قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ يَوْمًا, يَوْمٌ كَسَنَةٍ, وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ, وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ, وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ), قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: (لَا, اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ), قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: (كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ, فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا, وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ, ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ, فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ, فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ, ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ, ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ, فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ, وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ, إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ, فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ, فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ, ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمْ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ, فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمْ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنْ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنْ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنْ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنْ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنْ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنْ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنْ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ)12

قال الخطابي -رحمه الله-: "هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى، من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا، والخصب معه، وجنته وناره ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره ويقتله عيسى -صلى الله عليه وسلم- ويثبت الله الذين آمنوا.

هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار، خلافاً لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافاً للبخاري المعتزلي وموافقيه من الجهمية وغيرهم في أنه صحيح الوجود، ولكن الذي يدعي مخارق وخيالات لا حقائق لها, وزعموا أنه لو كان حقًّا لم يوثق بمعجزات الأنبياء، وهذا غلط من جميعهم؛ لأنه لم يدع النبوة فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعي الإلهية وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله، ووجود دلائل الحدوث فيه ونقص صورته وعجزه عن إزالة العور الذي في عينيه، وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه، ولهذه الدلائل وغيرها لا يغتر به إلا رعاع من الناس لسد الحاجة والفاقة رغبة في سد الرمق أو تقية وخوفاً من أذاه؛ لأن فتنته عظيمة جداً تدهش العقول وتحير الألباب مع سرعة مروره في الأرض فلا يمكث بحيث يتأمل الضعفاء حاله، ولهذا حذرت الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- من فتنته ونبهوا على نقصه ودلائل إبطاله.

وأما أهل التوفيق فلا يغترون ولا يخدعون بما معه لما ذكرناه من الدلائل المكذوبة له مع ما سبق لهم من العلم بحاله، ولهذا يقول الذي يقتله ثم يحييه: ما ازددت فيك إلا بصيرة.

وقد دلت الأحاديث على أن المسيح الدجال يدخل كل بلد إلا مكة والمدينة، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ؛ لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا, ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ)13.

فظهور الدجال -أخزاه الله- وشدة فتنته وهوله وبلاء الناس به، وبما يجري على يديه من علامات الساعة العظيمة وأشراطها الجسيمة، وقد سبق إيراد الأحاديث النبوية في شأنه والخبر عنه وبيان وصفه ونعته والتحذير منه.

ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ في صلاته وغيرها من فتنة الدجال وشره وأمر أمته بذلك, فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن, يقول: (قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ)14.

وعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه, إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة فقال: (مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ)؟ فقال رجل: أنا, قال: (فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ) ؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: (إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ)، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ)، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ), قالوا نعوذ بالله من عذاب القبر, قال: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ)، قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال"15.

وقد أرشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين إلى ما يعصمهم من فتنة المسيح الدجال كما جاء في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنْ الدَّجَّالِ), قال شعبة: من آخر الكهف, وقال همام: من أول الكهف16.

قال المناوي مبيناً سبب العصمة: وذلك لما في قصة أهل الكهف من العجائب، فمن علمها لم يستغرب أمر الدجال فلا يفتن، أو لأن من تدبر هذه الآيات وتأمل معناها حذره فأمن منه, أو هذه خصوصية أودعت في السورة17.

فسورة الكهف لها شأن عظيم وفيها من العجائب والآيات الباهرات التي من تدبرها عصم من فتنة الدجال، وقد ورد الحث على قراءتها وخاصة في يوم الجمعة، كما في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)18. فينبغي على المسلم أن يحرص على قراءة هذه السورة وحفظها وخاصة في يوم الجمعة.

هل ابن صياد هو الدجال الأكبر؟:

ابن صياد: هو رجل من يهود المدينة، وقيل: إنه من الأنصار، واسمه: صاف, وقيل: اسمه عبد الله، ذكره الذهبي في كتابه تجريد أسماء الصحابة فقال: عبد الله بن صياد أورده ابن شاهين، وقال: هو ابن صائد كان أبوه يهودياً, ولد عبد الله أعور مختوناً، وهو الذي قيل إنه الدجال ثم أسلم، فهو تابعي له رؤية، قال الحافظ ابن حجر -بعد أن ذكر كلام الذهبي السابق في الإصابة-: ومن ولده عمارة بن عبد الله بن صياد، وكان من خيار المسلمين من أصحاب سعيد بن مالك، روى عنه مالك وغيره، وقال الحافظ ابن كثير -في النهاية في الفتن والملاحم-: "وقد كان ابن صياد من يهود المدينة، ولقبه عبد الله, ويقال: صاف، وقد جاء هذا وهذا، وقد يكون أصل اسمه صاف, ثم تسمى لما أسلم بعبد الله، وقد كان ابنه عمارة بن عبد الله من سادات التابعين، وروى عنه مالك وغيره"19.

وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافاً شديداً، واضطربت فيه الروايات والآراء، وقبل الدخول في ذكر أقوال العلماء في ذلك نشير إلى بعض الروايات الواردة في شأنه، من ذلك: رواية عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- انطلق مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رهط قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة، وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ظهره بيده، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن صياد: (تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ)؟ فنظر إليه ابن صياد، فقال: أشهد أنك رسول الأميين، فقال ابن صياد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: (آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ)، ثم قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَاذَا تَرَى)؟ قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خُلِّطَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ)، ثم قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا) فقال ابن صياد: هو الدخ, فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ), فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ذرني يا رسول الله أن أضرب عنقه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ), وقال سالم بن عبد الله: سمعت عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "انطلق بعد ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بن كعب الأنصاري إلى النخل التي فيها ابن صياد, حتى إذا دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النخل طفق يتقي بجذوع النخل, وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئاً قبل أن يراه ابن صياد، فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع على فراش في قطيفة له فيها زمزمة, فرأت أم ابن صياد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يتقي بجذوع النخل، فقالت لابن صياد: يا صاف "وهو اسم ابن صياد" هذا محمد، فثار ابن صياد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ)20.

فقوله -صلى الله عليه وسلم -: (لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ) أي: لو لم تخبره ولم تعلمه أمه بمجيئنا لبين لنا من حاله ما نعرف به حقيقة أمره.

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: لقيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر -يعني ابن صياد- في بعض طرق المدينة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ)؟ فقال هو: أتشهد أني رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (آمَنْتُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ، مَا تَرَى)؟ قال: أرى عرشاً على الماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ، وَمَا تَرَى)؟ قال : أرى صادقين وكاذباً -أو كاذبين وصادقاً- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لُبِسَ عَلَيْهِ، دَعُوهُ)21.

وعنه أيضاً قال: خرجنا حجاجاً أو عماراً ومعنا ابن صياد، قال: فنزلنا منزلاً، فتفرق الناس وبقيت أنا وهو, فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه، قال: وجاء بمتاعه فوضعه مع متاعي، فقلت: إن الحر شديد، فلو وضعته تحت تلك الشجرة, قال: ففعل، قال: فرفعت لنا غنم، فانطلق فجاء بعس, فقال: اشرب أبا سعيد! فقلت: إن الحر شديد واللبن حار، ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده -أو قال آخذ عن يده- فقال: أبا سعيد! لقد هممت أن آخذ حبلاً فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول لي الناس، يا أبا سعيد: من خفي عليه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما خفي عليكم معشر الأنصار، ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أليس قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (هُوَ كَافِرٌ) وأنا مسلم؟ أوليس قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هُوَ عَقِيمٌ لَا يُولَدُ لَهُ)، وقد تركت ولدي بالمدينة؟ أو ليس قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ)، وقد أقبلت من المدينة، وأنا أريد مكة؟, قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: حتى كدت أن أعذره، ثم قال: أما والله إني لأعرف مولده, وأين هو الآن, قال: قلت له: تباً لك سائر اليوم"22.

أقوال العلماء في ابن صياد:

من أقوال العلماء في ابن صياد هل هو الدجال الأكبر أم لا، قول البيهقي في سياق كلامه على حديث تميم الداري السابق وفيه: أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر -صلى الله عليه وسلم- بخروجهم، وقد خرج أكثرهم، وكأن الذين يجزمون بأن ابن صياد هو الدجال لم يسمعوا بقصة تميم، وإلا فالجمع بينهما بعيد جداً؛ إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه محتلم، ويجتمع به النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسأله أن يكون في آخرها شيخاً كبيراً مسجوناً في جزيرة من جزائر البحر موثقاً بالحديد يستفهم عن خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- هل خرج أو لا؟ فالأولى أن يحمل على عدم الاطلاع، أما عمر فيحتمل أن يكون ذلك منه قبل أن يسمع قصة تميم, ثم لما سمعها لم يعد إلى الحلف المذكور، وأما جابر فشهد حلفه عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستصحب ما كان اطلع عليه من عمر بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وقال النووي: قال العلماء: وقصته مشكلة وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال المشهور أم غيره، ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة, قال العلماء: وظاهر الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يوصف إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره، ولهذا قال لعمر -رضي الله عنه-: (إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تَسْتَطِيع قَتْله)23, وأما احتجاجه هو بأنه مسلم والدجال كافر، وبأنه لا يولد للدجال وقد ولد له هو، وأنه لا يدخل مكة والمدينة وأن ابن صياد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة، فلا دلالة له فيه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته وخروجه في الأرض، ومن اشتباه قصته وكونه أحد الدجاجلة الكذابين قوله للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أتشهد أني رسول الله؟ ودعواه أنه يأتيه صادق وكاذب، وأنه يرى عرشاً فوق الماء، وأنه لا يكره أن يكون هو الدجال، وأنه يعرف موضعه، وقوله: إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن، وانتفاخه حتى ملأ السكة، وأما إظهاره الإسلام وحجه وجهاده وإقلاعه عما كان عليه فليس بصريح في أنه غير الدجال"24.

وقال أبو عبد الله القرطبي: "الصحيح أن ابن صياد هو الدجال بدلالة ما تقدم، وما يبعد أن يكون بالجزيرة في ذلك الوقت، ويكون بين أظهر الصحابة في وقت آخر"25, ويفهم من كلام النووي والقرطبي السابق أنهما يرجحان كون ابن صياد هو الدجال.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في معرض كلامه على الأحوال الشيطانية: "وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال، وتوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، لكنه من جنس الكهان"26. وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بعد أن ساق الأحاديث الواردة في ابن صياد وهل هو الدجال الأكبر أم لا، قال: وقد قدمنا أن الصحيح أن الدجال غير ابن صياد وأن ابن صياد كان دجالاً من الدجاجلة, ثم تاب بعد ذلك فأظهر الإسلام، والله أعلم بضميره وسيرته27. ولعل ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والحافظ ابن كثير -رحمه الله- هو الراجح في ابن صياد، وأنه دجال من الدجاجلة وليس هو الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان, والله أعلم28.

وخلاصة الأمر أننا نؤمن إيماناً جازماً لا شك فيه أن من العلامات الكبرى التي تسبق قيام الساعة خروج المسيح الدجال, سواء كان هو ابن صياد أم غيره, فهو فتنة آتية لا محالة, والمعصوم من عصمه الله, ونحن إذ نؤمن بذلك لنؤمن أيضاً أن نهايته ستكون بقتل نبي الله عيسى بن مريم -عليه السلام- له بعد أن ينزل في الأرض حكماً عدلاً؛ حيث أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا…) الحديث29. وقال –عليه الصلاة والسلام-: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ, فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ, فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ, فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا, فَيُقَاتِلُونَهُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا, وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ, وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا, فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ, فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ, إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ, فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ, فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ, فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ, فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَّهُمْ, فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاء, فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ ,وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ)30.

نسأل الله أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن, اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القبر وفتنة النار, ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات, ونعوذ بك من فتنة المسيح الدجال, وصلِّ اللهم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين.

 


 


1 من مقدمات كتاب الضياء اللامع لـ(ابن عثيمين).

2 التذكرة للقرطبي (ج 4 / ص 205).

3 رواه البخاري برقم (2829) (ج 10 / ص 274).

4 رواه مسلم برقم (5227) (ج 14 / ص 166).

5 رواه البخاري برقم (3184) (ج 11 / ص 257) ومسلم برقم (5218) (ج 14 / ص 157).

6 النهاية في غريب الأثر  (ج 3 / ص 292) لـ(أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري).

7 السباخ: جمع سبخة وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر. انظر المرجع السابق (ج 2 / ص 835).

8 رواه البخاري برقم (6599) (ج 22 / ص 34) ومسلم برقم (5229) (ج 14 / ص 169).

9 رواه مسلم برقم (5219) (ج 14 / ص 158).

10 شرح النووي على مسلم (ج 9 / ص 324).

11 صحيح البخاري (6859) (ج 22 / ص 414).

12 رواه مسلم (5228) (ج 14 / ص 167).

13 رواه البخاري برقم (1748) (ج 6 / ص 439).

14 رواه مسلم برقم (930) (ج 3 / ص 252).

15 رواه مسلم برقم (5112) (ج 14 / ص 28).

16 رواه مسلم برقم (1342) (ج 4 / ص 238).

17 فيض القدير للمناوي (ج 6 / ص152-153).

18 رواه الحاكم برقم (3349) (ج 8 / ص 37), وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2175).

 19النهاية في الفتن والملاحم لـ(ابن كثير) (ج 1 / ص 59) وللمزيد انظر: مشكل الآثار للطحاوي ( 4 / 96 – 103 )، وتهذيب التهذيب ( 7 / 418 ، 419 ).

20 رواه البخاري برقم (1267) (ج 5 / ص 140) ومسلم برقم (5215) (ج 14 / ص 153).

21 رواه مسلم برقم (5208) (ج 14 / ص 146).

22 رواه مسلم برقم (5211) – (ج 14 / ص 149).

23  سبق تخريجه بلفظ (إن يكنه…).

24 شرح النووي على مسلم (ج 9 / ص 310).

25 التذكرة للقرطبي – (ج 5 / ص 19).

26 مجموع فتاوى ابن تيمية – (ج 2 / ص 496).

27 النهاية في الفتن والملاحم (ج 1 / ص 59).

28 الموضوع مستفاد من كتاب أشراط الساعة لـ(عبد الله بن سليمان الغفيلي).

29 رواه البخاري (3192) (ج 11 / ص 266) ومسلم (220) (ج 1 / ص 368).

30 رواه مسلم برقم (5157) (ج 14 / ص 85).