الإيطان بالمسجد
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، يسمع دبيب النمل في الليل إذا سرى، لايعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، والصلاة والسلام على خير الورى، المبعوث في أم القرى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فإن من المسائل الهامة الطارئة الغائب حكمها عنا مسألة الإيطان في المسجد، أو تخصيص مكان معين في المسجد كما هو ملاحظ في كثير من المساجد ولاسيما مساجد دور العلم، ومساجد المراكز الشرعية، والأماكن التي يرتادها طلبة العلم بكثرة، كمساجد الجامعات الإسلامية، ومساجد الأربطة العلمية، ولهذا ترى حجز الأماكن في هذه المساجد كثيراً لأمور عدة:
منها: الحرص على الصلاة في الصف الأول لما فيها من عظيم الأجر، وجزيل الثواب؛ كما أخبر عنها النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا عليهما، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً))1.
ومنها: الحرص على القرب من الإمام لاسيما إذا كان من أهل العلم امتثالاً لقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))2.
ومنها: تخصيص مكان معين في المسجد حتى يعرف به عند مريديه وطلابه، لاسيما إذا كان المسجد واسعاً، وكانت عنده دروس عقب الصلوات، فيخصص هذا المكان للصلاة من أجل يشعر من رآه من الطلاب أنه ليس غائباً.
ومنها: لكثرة جلوسه ومدارسته للعلم في هذا المكان؛ فيصير بالنسبة له مكاناً مألوفاً لايستطيع مفارقته.
ومنها: محبة المريد لشيخه مما يجعله يرتاد المكان الذي كان يصلي فيه شيخه.
ومنها: الاعتقاد أن بعض الأماكن أعظم في الأجر من بعض؛ كأن يخصص لنفسه الصلاة دائماً في يمين المسجد لفضل التيامن.
ومنها: الاعتقاد البدعي بأنه إذا صلى في هذا المكان كان له أجر زائد، لأن للمكان عنده خصوصية خاصة (فيما سوى المساجد الثلاثة)، ومنزلة كبرى.
وغيرها من الأسباب التي تجعلهم يخصصون مكاناً معيناً من المسجد للعبادة من فريضة أو نافلة، ولهذا فقد أحببنا أن نجمع في المسألة ما تيسر من أجل الفائدة فنقول:
الإيطان: هو جعل مكان وطناً، واتخاذه محل الجلوس والإقامة.
أما الإيطان في المسجد: فهو اتخاذ مكان معين في المسجد، وتخصيصه لنفسه يصلي فيه الفرض والنافلة، ويجلس فيه باستمرار.
حكمه: مكروه.
دليل الكراهة: عن عبد الرحمن بن شبل – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم -: "نهى أن يوطن الرجل المقام الواحد كإيطان البعير" رواه ابن خزيمة3 ورواه أحمد في مسنده 4.
الشاهد: نهى أن يوطن.
وجه الدلالة:
أن النهي عن الإيطان في المسجد يدل على أنه مكروه، لما فيه من الضرر؛ ولأن هذا الحديث ضعيف لا يقوى على التحريم.
ومن المنكر ما يفعله بعض الجهلة من فرش بساط يسع جماعة، وتخصيصه لشخص واحد، أو له ولخدمه – كأن يكون له شأن – بشكل دائم لمدة معينة، فهذا محرم لكونه غصب مكاناً مشتركاً بين المسلمين5، إلا أن يكون عالماً يقصده الناس، وقد خصص الجلوس في مكان معين يجلس فيه ليأتيه من يستفيد من علمه؛ فهذا لا بأس به.
أما لو أتى رجل وجلس في مكان، ثم قام منه ليقضي حاجته، ثم رجع إليه؛ فهو أحق به؛ لأنه سبق إليه، ولا يحل لأحد أن يقيمه ليجلس مكانه، ولو أن صاحب المكان ذهب لحاجة ثم رجع إلى مجلسه فله أن يقيم من جلس في مكانه؛ لأنه أحق به بشرط ألا تكون المفارقة للمكان طويلة.
والأدلة على ذلك كثيرة منها حديث ابن عمر – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه)) رواه مسلم6.
وعنه – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا)) رواه مسلم7.
وعنه – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يقيمن أحدكم أخاه ثم يجلس في مجلسه، "وكان ابن عمر إذا قام له رجل عن مجلسه لم يجلس فيه")) رواه مسلم8.
ومنها: حديث جابر – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة؛ ثم ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: أفسحوا)) رواه مسلم9.
الشاهد من هذه الأحاديث: ((لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه . . . ثم يجلس في مجلسه . . . ))
وجه الدلالة: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى أن يقيم الرجل أخاه من مقعده الذي سبقه إليه مما دل على أن احتجاز مكان محدد في المسجد وتخصيصه أو حتى استمرار القعود في مقعد واحد يتحاشى الناس قربه لمعرفتهم أن هذا مقعد فلان من المسجد؛ فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه أشبه أن يكون حكراً عليه، وملكاً له؛ بدلالة هذه الأحاديث.
ويدل أيضاً على ما تقدم ذكره من أن من سبق إلى مكان فهو أحق به إذا رجع إليه حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قام أحدكم))، وفي حديث أبي عوانة: (( من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به))10.
والشاهد: "فهو أحق به".
ووجه الدلالة: أنه لا ينبغي لأحد يأتي مقعد أخيه الذي سبقه إليه، ثم يجلس فيه إلا بإذنه.
وهذه من الآداب الإسلامية العظيمة؛ حيث أن المسجد مكان عبادة أقرب الناس فيه إلى الله – تعالى – أتقاهم له، فمن سبق إلى مكان في المسجد فله حرمته، وله حقوقه، لكن لو قام الجالس في المكان لشخص من الناس؛ فللآخر حق الجلوس فيه11، والذي ينبغي للمؤمن أن لا يؤثر بالقربات أحداً، إلا أن يكون في إيثاره مصلحة تزيد القائم تقوى من الله – تعالى-.
وقد كره السلف تخصيص مكان في المسجد لنفسه لأنه يخل بالخشوع، وأما تخصيص مكان للإمام يصلى فيه فجائز والله أعلم.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، ويسر أمورنا، ووفقنا يارب ياكريم.
والحمد لله رب العالمين.
1– رواه البخاري برقم (615) ومسلم برقم (437) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 – صحيح مسلم (ج1ص 323).
3 – صحيح ابن خزيمة (2/280).
4 – مسند الإمام أحمد (5/447)، وهذا الحديث ضعيف لأن فيه تميم بن محمود فيه لين، انظر: نيل الأوطار (4/107)، وسنن الدارمي (1/303).
5 – تنبيه الغافلين لأحمد بن إبراهيم الدمشقي (ص328).
6 – صحيح مسلم رقم 2177.
7 – المرجع السابق (28).
8 – المرجع السابق (29).
9 – المرجع السابق رقم 2178.
10 – رواه مسلم برقم (2180).
11 – المغني لابن قدامة (2/351)، وكشاف القناع (1/325).