الحمد لله الذي أنزل كتابًا عظيم القدر بواسطة مَلَك عظيم القدر إلى نبيٍّ عظيم القدر في ليلة عظيمة القدر، والصلاة والسلام على محمد خير البشر، وعلى آله وصحبه أهل الكرم والبر.
وبعد أيها المسلمون:
إن أعظم النعم التي امتن الله بها على عباده نعمة القرآن، وأعظم الليالي ليلة نزول القرآن، فهي ليلة قدرها جليل، وليس لها مثيل، فقد شهد الله بفضلها وباركها ببركة القرآن فقد قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [سورة الدخان:3]، وقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [سورة القدر:1-2].
فهلموا بنا – عباد الله – نتعرف على خصائص هذه الليلة وفضائلها حتى نقدُرها حق قدرها، ونستعد لقدومها:
فأولى خصائص هذه الليلة وفضائلها: أنْ شرَّفها الله بنزول القرآن فيها:
وذلك – إخوة الإيمان – أنَّ القرآن قد نزل في هذه الليلة جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزّة في السماء الدنيا، ثم أُنزل بعد ذلك على النبي ﷺ منجَّمًا ومفرَّقًا بحسب الوقائع والحوادث فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة(1).
ومن خصائص هذه الليلة وفضائلها – إخوة الإيمان -: أن الله سبحانه ضاعف أجور الأعمال الصالحات فيها أضعافًا كثيرة فقد قال تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [سورة القدر:3]، قال مجاهد أي: “عملُها، وصيامُها، وقيامُها؛ خيرٌ من ألف شهر”(2).
وذلك من فضل الله ومِنّته على هذه الأمة؛ وذلك لقِصَر أعمارها مقارنة بأعمار الأمم السابقة لها فقد روي أنَّ النبي ﷺ ذكر يومًا أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عامًا، قال: فعجب أصحاب رسول الله ﷺ من ذلك، فأتاه جبريل فقال: يا محمد عجبتْ أمّتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين، فقد أنزل الله خيرًا من ذلك فقرأ عليه: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، هذا أفضل مما عجبتَ أنت وأمتك، قال: فسُرَّ بذلك رسول الله ﷺ، والناس معه(3).
وروي عن بعض السلف قال: كان في بني إسرائيل رجلٌ يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتى يُمْسِيَ، ففعل ذلك ألف شهر، فأنزل الله هذه الآية: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أي: قيام تلك الليلة خيرٌ من عمل ذلك الرجل(4).
ومن خصائص هذه الليلة المباركة وفضائلها كذلك: أن من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه [رواه البخاري].
كما أخبر ﷺ أن من حُرم خير هذه الليلة وفضلها فقد حُرم فعن أبي هريرة قال: لما حَضرَ رمضانُ قال رسول الله ﷺ: قد جاءكم شهر رمضان، شهرٌ مباركٌ، افترض اللهُ عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرم [رواه النسائي].
ومن خصائص هذه الليلة وفضائلها – إخوة الإيمان -: أن الملائكة الكرام وعلى رأسهم جبريل الأمين تتنزل فيها إلى الأرض فقد قال تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ [سورة القدر:4] يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: “يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة”(5).
ومن خصائصها كذلك: أن الله سبحانه يقدر فيها الآجال والأرزاق فقد قال تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [سورة الدخان:4]، قال مجاهد: “يُقضَى في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة، ثم يُقَدّمُ ما يشاء، ويُؤخّر ما يشاء، فأمَّا كتاب السعادة والشقاء فهو ثابت لا يُغّير”(6).
ومن خصائصها: أنها ليلة سالمة من كلِّ شرٍّ أو أذى فقد قال تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر:5] كما جاء عن بعض السلف: أي “هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا، أو يعمل فيها أذى”(7).
عباد الله:
هذه بعض فضائل وخصائص هذه الليلة المباركة، وفضل الله أعظم، وعطاياه لا حصر لها، والموفّق من وفقه الله، فجدّ واجتهد في طلب المعالي، أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لاستباق الخيرات، واغتنام النفحات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد الله ذو الفضل والإحسان، والصلاة والسلام على خير الأنام محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. عباد الله:
بعد ما تعرفنا على خصائص ليلة القدر كيف بنا أن نستثمرها، ونكون من أهلها؟
لا شك أن أول ما ينبغي على المسلم في ذلك هو تحري وقتها، والحرص على إدراكها؛ وذلك كما أخبرنا النبي ﷺ بتحرّي هذه الليلة في الليالي العشر الأواخر من رمضان وخاصة الليالي الوتر منها فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: التمسوها في العشر الأواخر من رمضان [رواه البخاري]، وروت عائشة – رضـي الله عنها -: أنَّ رسول الله ﷺ قال: تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان [رواه البخاري] فإذا حصل التحرّي، والحرص على الخير، وطلب ليلة القدر؛ صَدَّقَ ذلك الاجتهادُ في قيام هذه الليالي العشر، والاجتهاد فيها بالأعمال الصالحات.
ولقد كان النبي ﷺ إذا أتت العشر الأواخر من رمضان يحيي ليله، ويوقظ أهله، ويعتكف في المسجد للعبادة فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “كان النبي ﷺ إذا دخل العشر شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله” [رواه البخاري].
وذلك أن قيام الليل في هذه الليالي المباركة من أفضل العبادات التي يمكن أن يتقرّب بها المسلم إلى الله ؛ لما له من عظيم الأجر كما أخبر النبي ﷺ فقد روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه [رواه البخاري].
كما يتأكد ويُستحب للمسلم الاجتهاد في الدعاء في هذه الليالي وخاصة بما أثر عن النبي ﷺ كما جاء عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت للنبي ﷺ: يا رسول الله! أرأيتَ إنْ علمتُ أيّ ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحبّ العفو فاعفُ عنّي [رواه الترمذي].
أيها المسلمون:
إنكم مقبلون على ليلة عظيمة تُضاعف فيها الأجور، وتُغفر فيها الذنوب، فالاجتهادَ الاجتهادَ، والحذرَ الحذرَ من ضياعها، واسألوا الله العون في ذلك؛ فإن ذلك من أعظم أسباب تيسير العبادة كما في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: أتُحِبُّون أن تجتهِدوا في الدُّعاءِ قولوا اللهمَّ أعِنَّا على ذِكْرِك وشُكْرِك وحُسْنِ عِبادتِك.
أسأل الله سبحانه أن يبلغنا وإياكم فضل هذه الليلة، وأن يجعلنا من أهلها، وأن يكتب لنا أجرها ولا يجعلنا من المحرومين، وأن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.
- تفسير ابن كثير: (1/ 367).
- تفسير الطبري: (24/ 533).
- تفسير ابن كثير: (8/ 426).
- تفسير الطبري: (24/ 533).
- تفسير ابن كثير: (8/ 444).
- تفسير الطبري: (22/ 10).
- تفسير ابن كثير: (8/ 427).