إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فلا هادي له، وأشهد ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بخير ما يُوصى به بتقوى الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [سورة النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الأخوة الأحباب:
رمضانُ مدرسةٌ تربويَّةٌ فريدةٌ لتقوية إرادة المسلمين، ففيه نصوم عن الطَّعام، والشَّراب، والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشَّمس لمدة تسعٍ وعشرين أو ثلاثين يومًا، وهذا الصِّيام يربِّي المسلم على التَّحكُّم في شهواته وملذَّاته بدلًا من أن تتحكَّم هي فيه؛ فترتقي نفسه من عالم المادة إلى عالم الروح، ومن عبودية هواه إلى عبودية الله “ألا ما أعظمك يا شهر رمضان، لو عرفك العالم حقَّ معرفتك لسَمَّاكَ: مدرسة الثَّلاثين يومًا”(1).
عباد الله:
ومن دروس تقوية الإرادة وعلو الهمة في العبادة في شهر الخير رمضان: ما رغَّبنا فيه الحبيب ﷺ في قيام الليل مع الإمام حتى ينصرف، فقال: من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة(2)، ففي هذا الحديث الشريف حثٌّ على قوة الإرادة بالاستمرار في الأعمال الدِّينية والدُّنيوية الصَّالحة حتى إنهائها، وكذلك للحصول على ثوابٍ أكبر، وأجرٍ أعظم؛ وهو قيام الليل كلِّه لا جزءٍ منه.
والصلاة بعامة فرضها ونفلها؛ من أعظم ما يقوِّي إرادة المسلم، ويعينه على تحمُّل مشاقِّ الحياة ومواجهتها، ولا أدلَّ على ذلك من ذكر الله – تعالى – لها مع الصبر مرتين قال سبحانه: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45]. وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:153].
والصلاة من أفضل ما يعين على جلاء الأحزان والهموم التي تضعف الإرادة كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان – رضي الله عنهما – أن النبي ﷺ كان إذا حزبَهُ أمرٌ فزعَ إلى الصَّلاةِ.
فلنستوص خيرًا – أحبتي في الله – بهذه العبادة العظيمة بإقامتها كما أمر ربنا، والمسارعة لأدائها في وقتها، والخشوع فيها، والإكثار من نوافلها؛ ولنستبشر بعظيم الأجر والفضل، مع آثارها في سكينة النفس، وراحة البال، كما قال رسول الهدى ﷺ: “يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها”(3).
إخوة الإيمان والإسلام:
ورمضان أيضًا فرصةٌ لتقوية إرادة المسلم على الزَّكاة والصَّدقة، والعطاء والجود، والتَّخلص من الشَّح والبخل، والطَّمع والأنانية، وكلُّ ذلك من خلال أداء زكاة الفطر والصدقات.
ورمضان فرصةٌ كذلك لتقوية إرادة المسلمين على التَّخلي عن مساوئ الأخلاق، والتَّحلي بمحاسنها فقد قال رسولنا الكريم ﷺ: والصِّيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذٍ، ولا يَسْخَبْ، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إنِّي امرؤٌ صائمٌ(4)، وقال ﷺ: من لم يدع قول الزور، والعمل به؛ فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه(5)، جاء في شرح الحديث: فيه دليلٌ أنَّ حكم الصِّيام الإمساك عن الرَّفث وقول الزور كما يمسك عن الطَّعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقَّص صيامه، وتعرَّض لسخط ربه، وترك قبوله منه… وليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه إذا لم يدع قول الزور، وإنَّما معناه التَّحذير من قول الزُّور(6).
فانظر معي -أخي المسلم- كيف أنَّ النبي ﷺ الذي حذَّرنا من مساوئ الأخلاق في كلِّ وقتٍ زاد من تحذيرنا منها في هذا الشَّهر الكريم، فهذا الشهر فرصة سنوية مكثَّفةٌ للتَّخلص من مساوئ الأخلاق، والتَّحلي بمحاسنها؛ فاستعن بالله، وقوِّ إرادتك على الامتناع عن السبِّ والشَّتم، والجدال والسُّخرية، واللَّمز والكذب، والكلام بالباطل والقذف، والغيبة والنَّميمة، واللَّغو والقول على الله بغير علمٍ والحلف بغيره … واستبدل بذلك ذكرَ الله، والكلام الطَّيب، والنَّصيحة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وتذكَّر أنَّ كلَّ قولٍ يخرج من فمك يُكتب لك أو عليك: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18]، وتذكَّر أنَّ الله تعالى أمرنا أن نقول التي هي أحسن، فلو كان هناك كلامٌ حسنٌ وكلامٌ أحسن منه فينبغي لنا أن نتكلَّم بالأحسن قال تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [سورة الإسراء:53].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، ولا عدوان إلَّا على الظالمين، وأشهد ألَّا إله إلَّا الله، البرُّ الكريم، الرَّؤوف الرحيم، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا ﷺ خاتم الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون:
لا شكَّ أنَّ الإرادة القوية من أهم أسباب النَّجاح في الدُّنيا والآخرة، ومن الأمور التي تعين على تقوية الإرادة، وعلوِّ الهمة في العبادة:
الاستعانة بالله – تعالى -، والتَّوكل عليه، واللُّجوء إليه، فهو الذي بيده القلوب يقلّبها كيف شاء، وهو القادر سبحانه على أن يعينك على فعل ما يرضيه، وتجنب ما نهى عنه.
ومما يعين كذلك: التخطيط الجيد، فهو يساعد – بإذن الله – على النَّجاح، ومن الشواهد على ذلك في القرآن الكريم خطة نبي الله يوسف في مواجهة مجاعة مصر قال تعالى: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبَاً فَمَا حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف:47-49].
فجدير بمن يطلب الأجور العالية أن يضع لنفسه خطةَ خيرٍ لضبط الأوقات، واغتنام مواسم الخيرات قبل الفوات!
ومن أهم ما يعين في رفع الهمة، وتقوية الإرادة: مجاهدة النَّفس كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [سورة العنكبوت:69] قال ابن القيم – رحمه الله -: علَّق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل النَّاس هدايةً أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النَّفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشَّيطان، وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله؛ هداه الله سبل رضاه الموصِّلة إلى جنَّته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطَّل من الجهاد(7).
ومن المعينات وأسباب التوفيق: المداومة على الأعمال وإن كانت قليلة كما جاء عن النبي ﷺ لما سئل: أي الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل(8).
فاحرص – أخي المسلم – على مداومة طاعاتك؛ وتأمل الخير العظيم حيث جعل نبيُّنا ﷺ الأعمال المستمرة – وإنْ قلتْ – من أحبِّ الأعمال إلى الله – تعالى -.
ومن المعينات كذلك: مصاحبة الصَّالحين، وذوي الهمم العالية، لأنَّ الصَّديق له تأثيرٌ كبيرٌ على صديقه، فإذا نظرنا إلى معظم الصَّالحين فسنرى أصحابهم من الصَّالحين، وإذا نظرنا إلى معظم الفاسدين، فسنرى أصحابهم من الفاسدين، ومن أجل ذلك نبَّهنا النبي ﷺ على حُسن اختيار الصديق قائلًا: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل(9).
ومن أهم المعينات للمسلم: الحذر من التَّسويف، فهو من حيل الشيطان، فكم من أعمالٍ سُوِّفت ثم ترُكِت؟! فإذا أردت الفوز والفلاح فتجنَّب التسويف، وسارع وبادر إلى عمل الخيرات وترك المنكرات قال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [سورة البقرة:148]، وقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران:133]، وقال النبي ﷺ: بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا(10).
أخوة الإيمان:
ومما يعين العبد كذلك في تقوية الإرادة، ورفع الهمة في العبادة: القدوة الحسنة؛ لما لها من دورٍ كبيرٍ في علوِّ الهمة، وقوة العزيمة، والتَّأثير في الأقوال والأفعال، فاجعل قدواتك الأنبياء – عليهم السلام -، والصالحين من عباد الله، وعلى رأسهم خير من عرفته البشرية محمد ﷺ، فقد قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [سورة الأحزاب:21]، ولا مانع من أن تقتدي بأيِّ إنسانٍ في أمرٍ معينٍ إذا لم يكن فيه معصيةٌ لله، كأن تقتدي به في نجاحه في دراسته أو عمله، وكل ما هو خير يقربك من مرضاة ربك.
ومن أسباب النجاح والتوفيق: المحاولة وعدم الاستسلام بعد الخطأ، وأعظم ما يكون ذلك في الرجوع عن الذنوب بالأوبة والتوبة كما قال النبي ﷺ: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون(11).
والأمور التي تساعد على تقوية الإرادة غير ذلك كثيرة؛ مثل: ترغيب النفس وترهيبها، وممارسة الرياضة النافعة لتقوية البدن، وطرد الكسل، والبعد عن المغريات والفتن إلى غيرها مما يعين المسلم، ويصلح شأنه، ويرفع همته بإذن ربه – جل وعلا -.
أيها الأحباب:
حريٌّ بمن يمتنع عن الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس شهرًا كاملًا أن يمتنع عن المحرمات، وأن يحافظ على الطاعات.
وحريٌّ بمن يمتنع عن التدخين في نهار رمضان أن يمتنع عنه في ليله وفي بقية العام.
حريٌّ بنا في موسم الخير أن نقوِّي إرادتنا، ونعلي همتنا، ونمضي بعزيمتنا لاستباق الخيرات، واغتنام النفحات، وهجر المنكرات؛ ابتغاء رضوان الله، وفضله، ومثوبته – جل وعلا -.
بقدرِ الكدِّ تكتسبُ المعالي | ومن طلب العلا سهر اللَّيالي |
ومن رام العلا مِن غير كدٍّ | أضاع العمر في طلب المحال |
تروم العزَّ ثم تنام ليلًا | يغوص البحر من طلب اللآلي |
اللهمَّ بارك لنا في شهر رمضان، وأعنَّا فيه على الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن، ووفقنا فيه لكلِّ خيرٍ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهمَّ إنَّك عفوٌ تحبُّ العفو فاعفُ عنَّا.
اللهم إنا نسألك في هذا اليوم بركةً تطهر بها قلوبنا، وتكشف بها كروبنا، وتغفر بها ذنوبنا، وتصلح بها أمرنا، وتغنى بها فقرنا، وتذهب بها شرَّنا، وتكشف به همَّنا وغمَّنا.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علمًا.
اللهم أصلح أحوالنا، وتولَّ أمرنا، وألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واجمع كلمتنا، وانصرنا على من عادانا، وأعنَّا على أنفسنا، ولا تجعل للظالمين علينا سبيلًا.
وصل اللهمَّ على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.
- وحي القلم، مصطفى صادق الرافعي 2/ 61، دار الكتب العلمية 1421هــ.
- أبو داود 1375، والترمذي 806، والنسائي 1605، وابن ماجه 1327.
- رواه أبو داود وغيره، وصححه الألباني (صحيح أبي داود4985).
- البخاري 1894، ومسلم 1151.
- البخاري 1903.
- شرح صحيح البخارى، لابن بطال 4/ 23.
- الفوائد، لابن القيم 59.
- البخاري 6465.
- أبو داود 4833، والترمذي 2378، وأحمد 8028.
- مسلم 118.
- الترمذي 2499، وابن ماجه 4251، وصححه الألباني 4515.