رمضان شهر الانتصارات

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعز من يشاء بفضله، ويذل من يشاء بعدله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه في الأولين، وصلى الله عليه في الآخرين، وصلى الله عليه في الملإ الأعلى إلى يوم الدين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

أيها المسلمون: لم يكن شهرُ رمضان عند سلفنا الصالح شهرَ النوم، والكسل، بل كان شهر جهاد، ومجاهدة، ودعوة، وعمل، شهر ضحى فيه المسلمون بأنفسهم، وأموالهم، ووقتهم، وصحتهم، ولكم أن تسألوا التاريخ عن الأمجاد التي تحققت في هذا الشهر العظيم؛ لأن الأمة التي لا تقرأ تاريخها لا يمكن أن تعرف حاضرها، ولا أن تخطط لمستقبلها.

أيها المؤمنون:

في السنة الثانية للهجرة، وتحديدًا في السابع عشر من شهر رمضان؛ وقعت غزوة بدر الكبرى، والتي انتهت بالنصر المؤزّر للإسلام والمسلمين، وبفضل الله ثم بفضل هذه الغزوة أصبح للمسلمين دولة معترفٌ بها، وقوةٌ لا يستهان بها، بعد أن كانوا مهدّدين من قبلِ قبائلِ المشركين، وصدق الله القائل: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:126].

أيها الأحبة الكرام:

وفي مثل هذا الشهر فتح الله ​​​​​​​ بيته لنبيه، وطهّره من الشرك، والكفر، والظلم، والاستكبار، فكان حدثًا عظيمًا على مستوى تاريخ البشرية كلها، وبهذا الفتح أعز الله – تبارك وتعالى – دينه، ورسوله ، وحزبه، وبه استنقذ بلده وبيته من أيدي الكفار والمشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فانحسرت الوثنية في جزيرة العرب.

وفي مثل هذا الشهر بعث رسول الله  خالد بن الوليد  لهدم صنم العُزى، وفيه ذهب عمرو بن العاص  ليهدم صنم سُواع، وفيه ذهب سعد بن زيد  ليهدم صنم مناف.

وفيه حدثت موقعة البويب سنة ثلاث عشرة للهجرة بقيادة المثنى بن الحارثة – رحمه الله -، وكان عدد المسلمين في هذه الموقعة ثمانية آلاف، والفُرْسُ مائة ألف، فثبت المسلمون ثباتًا عجيبًا، وأبلوا بلاءً حسنًا، وانتصروا انتصارًا رمضانيًّا مذهلًا.

وفي هذا الشهر العظيم كانت معركة القادسية سنة خمس عشرة للهجرة بقيادة سعد بن أبي وقاص ، وفيه فتحت جزيرة رودس في البحر الأبيض المتوسط سنة ثلاث وخمسين للهجرة على يدي جنادة بن أبي أمية الأَزْدِي – رحمه الله -، وعلى الرغم من الصعوبة الشديدة لم يؤخِّر المسلمون القتال إلى ما بعد رمضان.

أيها الأخوة الفضلاء:

وفي رمضان سنة إحدى وتسعين للهجرة تم اكتشاف إمكانية فتح الأندلس بقيادة طريف بن مالك – رحمه الله -.

وفي رمضان سنة اثنتين وتسعين للهجرة وقعت معركة في أرض الإسبان بقيادة طارق بن زياد – رحمه الله -، وكان عدد الصليبيين مائةَ ألف، وعدد المسلمين اثنا عشر ألفًا، فانتصر المسلمون على الصليبيين، وصدق الله القائل: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ، وعلى إثر هذه العركة تغيَّر تاريخ المنطقة في شمال إفريقيا، وأوربا.

أيها الأحبة الكرام:

وفي شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة للهجرة قام صلاح الدين – رحمه الله – بحصار صور، وفي شهر رمضان سنة أربع وثمانين وخمسمئة للهجرة قام بتحرير مدينة صفد.

وفي شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمئة للهجرة حدثت موقعة عين جالوت بقيادة سيف الدين قطز – رحمه الله – على جحافل التتار.

وفي شهر رمضان سنة سبع وخمسين وثمانمئة للهجرة فتحت القسطنطينية على يد محمد الفاتح – رحمه الله -.

وفي التاريخ المعاصر في العاشر من رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمئة وألف للهجرة تقدم الجنود المصريون فعبروا قناة السويس، ودمّروا وهم يهلّلون ويكبّرون خط “بارليف” أقوى خط دفاع عرفه العالم في القرن العشرين، ويجتاحون مواقع بني صهيون في معظم سيناء، قبل أن تتدخل الدول الكبرى لصالح الكيان الصهيوني، ويتوقف القتال.

هكذا سطّر المسلمون انتصاراتهم في شهر رمضان، وكلما جاء الشهر الفضيل تذكّرنا هذه الانتصارات، فلله الحمد والمنّة، ونسأله المزيد من فضله، ونصره لأمة الإسلام.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ الأعلى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه ، وعلى آله الطيبين، وأصحابه المباركين، وعلى سائر عباد الله الصالحين، أما بعد:

عندما يُذكر الانتصار في رمضان ينصرف الذهن مباشرة إلى الانتصارات العسكرية التي حققها المسلمون على أعدائهم في هذا الشهر، وهذا حق، ولكن مجالات الانتصار في رمضان بالنسبة للمؤمن لا تقتصر على هذا الجانب فقط، بل منها ومن أعظمها الانتصار على النفس، ومجاهدتها والارتقاء بها في مدارج الطاعات.

ومن ذلك اغتنام الأجواء الروحانية التي يصنعها رمضان بنفحاته، ورحماته، وجوائزه، ومآثره التي يغدقها المولى ​​​​​​​ فيه على عباده المؤمنين الصائمين، فرمضان شهر الصبر والتقوى، وبالصبر والتقوى يحقق العبد أولى درجات النصر الكبرى وأسبابه، قال الله تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [سورة آل عمران:120]. فإذا صبرت الأمة، واتقت الله  ؛ وقّاها شر عدوها، ودافع عنها إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [سورة الحج:38].

نعم أيها المسلمون: إن مدرسة الصيام محطة مهمة ليجعل العبد المؤمن لنفسه فيها خطة عمليّة لتحقيق الانتصارات بمفهومها الشامل، ومن ذلك: الانتصار على الشيطان، والشهوات، والشبهات، والرياء، والبخل، وسوء الخلق من غضب، من كذب، وغيبة، ونميمة، فمعركة الشهوات قضية مصيرية بالنسبة للمؤمن؛ لأنه إن انهزم فيها، وفشل في مقاومتها، وسلم العنان والخطام لها؛ أدى به ذلك إلى الانهزام في كل معاركه الأخرى، فالشهوات حواجز تحجز عنه موارد التوفيق، وصوارف تصرفه عنه النجاح في أمر آخرته، ووالله ما انتصر أسلافنا على أعدائهم إلا بعد ما انتصروا في معركة الشهوات، وما انهزم من بعدهم، وانكسرت شوكتهم؛ إلا لما استسلموا لشهواتهم، وانهزموا أمامها، وفي مأساة الأندلس شاهد ودليل على ذلك.

والصوم – عباد الله – من أفضل وسائل جهاد النفس، وكسر جموح شهواتها، يقول ابن القيم – رحمه الله -: “وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(1).

أيها الأخوة الفضلاء: إن المتأمل لحركة المدّ والجَزر في تاريخ الأمة لا يعتريه شك أن الأمة اليوم تمر بأصعب أيامها، وأشد أحوالها، كيف لا وقد نزلت بها النكبات، وحلت بها الكوارث والأزمات؟! علمًا بأن أعداد المسلمين كثيرة، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، والسبب أنهم هجروا ظهور الخيل، وأخذوا بأذناب البقر، ولا والله لن ينجوا مما أصابهم إلا بإقبالهم على ربهم، ورجوعهم إلى دينهم، وجهادهم أعداء الدين من الكفار والمنافقين، والنصح للمسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الله – تعالى- في بيان المستحقين للنصر: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [سورة الحج:41] والنصر – كما هو معلوم – إنما ينزل – بإذن الله تعالى – وفق سنن وقوانين مضبوطة كسير الشمس، فيجب علينا أن نأخذ بأسباب النصر، وسننه؛ للخروج من مآسي اليوم، وتحقيق آمال الغد.

يجب علينا أن ننصر الله – تعالى- بأقوالنا، وأعمالنا، وقلوبنا؛ امتثالًا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [سورة محمد:7]، ونصرنا لله – تعالى – إنما يكون بتعظيم دينه، وامتثال أمره، وإعلاء كلمته، وتحكيم شرعه، والجهاد في سبيله.

هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين، كما أمركم ربكم جل في علاه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [سورة الأحزاب:56] اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم انصر دينك وكتابك، وعبادك المؤمنين، اللهم انصر من نصر الدين، واجعلنا من أنصاره، واخذل من خذل الدين، ولا تجعلنا ممن خذله.

اللهم إنا نسألك بأسمائك العلى، وصفاتك الحسنى؛ أن تختم لنا بما يرضيك عنا، واجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير ساعاتنا ساعة لقائك، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا يا رب العالمين.


  1. انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم (2/ 28).