العشر المباركة والاجتهاد فيها

الحمد لله، الحمد لله وهو الكريم أسبغَ علينا نعمَه باطنةً وظاهرةً، والحمد لله وهو الرحيم لم تزَل ألطافُه علينا مُتظاهرة، والحمد لله وهو العزيز ذلَّت لعزَّته رِقابُ الجبابرة، أحمده سبحانه وأشكره وهو الشكور دامَت علينا نعمُه مُتكاثرةً مُتوافرةً مُتواترة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُنجِي صاحبها في الدار الآخرة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله المُؤيَّد بالآيات الكُبرى، والمُعجِزات الباهرة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهمّ صَلِّ عليه ما حَيَّ الحَيَا أرضًا وما شَهَقتْ بتَسليمٍ فَمُ
 يا ربّ صلِّ على النبيِّ (مُحمّدٍ) ما سبَّحتْ فوقَ السّماءِ الأنجُمُ
ما احْمَرَّ خَدُّ الأُقحُوانِ على النَّدى  ما حَامَ حَولَ حِمَى حَرامِكَ مُسلمُ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [سورة النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ۝يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [سورة الأحزاب:70-71].

أما بعد: فيا أيها المؤمنون:

ها هو رمضان الخير والبركات قد أوشك ثلثاه على الرحيل، وها نحن صرنا على أعتاب ثلثه الأخير، والثلث كثيرٌ كما ورد عن الرسول الكريم حيث قال: الثلث والثلث كثير – أو كبير –(1)، أي أن الفرصة ما زالت أمامنا، ونستطيع أن ندرك فيها الخير الكثير، ونحصّل منها الأجر العظيم.

فانتبهوا – أيها المسلمون – لختام الشهور والأعوام، ولما تقدمون فيها من أعمال، فالنبي – عليه الصلاة والسلام – يقول: إنما الأعمال بخواتيمها كالوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله، وإذا خَبُثَ أعلاه خَبُثَ أسفله(2).

كما أن من توفيق الله – تعالى – للعبد أن يُختَم له بعمل صالح لقول رسول الله : إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت(3) أي: عند خاتمة عمره.

فالختام بالطاعة علامة السعادة كما أخبر المصطفى في قوله: من خُتم له بإطعام مسكين محتسبًا على الله ​​​​​​​ دخل الجنة، من خُتم له بصوم يوم محتسبًا على الله ​​​​​​​ دخل الجنة، من خُتم له بقول لا إله إلا الله محتسبًا على الله ​​​​​​​ دخل الجنة(4).

إخوة الإسلام:

لا بد لنا من وقفة مع أنفسنا قبل انفلات بقية أيام الشهر المبارك ولياليه، وقبل أن يتفاجأ بعضنا بفواته دون أن يدرك مطلوبه من العفو ومغفرة الذنوب – عياذًا بالله -، وقبل أن يكون في عداد الخاسرين المخذولين، فالناس عند الختام صنفان: صنف فائز مسرور، وصنف خاسر مخذول.

وهذا ما أكده لنا رسولنا الكريم   فيما جاء عن مالك بن الحويرث قال: صعد رسول الله المنبر فلما رقي عتبةً قال: آمين، ثم رقي عتبةً أخرى، فقال: آمين، ثم رقي عتبة ثالثة فقال: آمين ثم، قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد! من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، قلت: آمين، قال: ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله، قلت: آمين، فقال: ومن ذُكرتَ عنده فلم يصل عليك فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين(5).

فيا له من أمر خطير توجل منه القلوب، وترتجف منه الأفئدة، فأمين الوحي جبريل  يأتي ويدعو على هؤلاء المفرِّطين، الذين أضاعوا هذا الخير من بين أيديهم، يدعو عليهم بالبُعد والخسران، وبدخول النار – أعاذنا الله وإياكم منها -، وفوق هذا يكون سيد المرسلين – صلوات ربي وسلامه عليه – هو الذي يؤمّن على دعائه.

إنه والله لخسران مبين، وإنه لتحذيرٌ شديد ينغّص على العبد نومه، ويقضّ مضجعه.

وإنه لتنبيه قويّ يجب ألّا نتهاون معه، فالأمر إما جنةٌ ونعيم، وإما نارٌ وجحيم، نسأل الله – تعالى – العفو والعافية.

إخوة الإيمان:

ما السبيل إذًا للنجاة من هذا الخسران؟ وما السبيل للفوز بوعد الله ورسوله بالعفو والغفران؟

إن السبيل لذلك – أخي المسلم – هو الصِّدقُ مع الله، أن تصدُق الله تعالى في نيتك وعزمك، فإن من يصدُق الله يصدُقه، ومن أبلغ ما جاء في ذلك من قصص الصادقين ما جاء عن شدَّادِ بن الهَادِ أن رجلًا من الأعراب جاء إلى النبي   فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم النبي سبيًا فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا؟، قالوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لك النبي ، فأخذه فجاء به إلى النبي ، فقال: ما هذا؟ قال: قسَمْتُهُ لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرْمَى إلى هاهنا – وأشار إلى حلقه بسهم – فأموت فأدخل الجنة فقال: إن تصْدُقِ الله يصدُقْكَ، فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي  يُحملُ قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي : أهو هو؟  قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدَقَهُ، ثم كفَّنه النبي  في جُبَّةِ النبي ، ثم قدَّمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدُك خرج مهاجرًا في سبيلك، فقُتِلَ شهيدًا؛ أنا شهيدٌ على ذلك(6).

هكذا حصَّل هؤلاء المنازل العالية بصدقهم مع ربهم، وعزمهم وهمتهم، فتوفيق الله – تعالى – لا يناله المعرضون، ولا الكسالى، ولا الغافلون، وإنما يناله أصحاب الهمم العوالي، جعلنا الله وإياكم منه.

معاشر المؤمنين:

إننا حين نؤكّد على أهمية الخواتيم، وعلى الصدق مع الله رب العالمين؛ فما ذاك إلا لأننا مقبلون على خير الليالي وأفضلها: ليالي العشر المباركة الأخيرة من رمضان، التي من فاز فيها فقد نجا وسعد في دنياه وآخرته، ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة، والقدوة الطيبة، فقد كان يجد ويجتهد في الطاعة، ويزداد من العمل في مثل هذه الأيام المباركة كما أخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – واصفة حال النبي  حيث قالت: ”كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره“(7)، وقالت أيضًا: ”كان رسول الله إذا دخل العشر؛ أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر“(8).

فهل نعلم سبب هذا الاجتهاد عباد الله؟

السبب في ذلك كما ذكر العلماء أمران: أحدهما: رجاء ليلة القدر، والثاني: لأنه آخِر العمل، وينبغي أن يُحرص على تجويد الخاتمة(9).

فأما الحرص على الاجتهاد في العمل عند الخواتيم فهو يتأكّد في هذه العشر المباركة التي هي أفضل ليالي السنة، وختام شهركم، وأما التماس ليلة القدر فلأنه  أخبر أن ليلة القدر في العشر الأواخر، فالأحوط طلبها في العشر كله؛ لئلا تفوت(10).

نعم إخوة الإيمان، إنها ليلة القدر؛ تلك الليلة التي أنعم الله فيها على هذه الأمة بما لم ينعم به على أمة غيرها.

تلك الليلة المباركة التي نزل فيها القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا كما قال تبارك وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [سورة الدخان:3].

تلك الليلة المباركة التي يُفصَلُ فيها من اللوح المحفوظ إلى الكَتَبَة أمرُ السَّنَة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها(11).

تلك الليلة المباركة .. الخير فيها عظيم، والبركات فيها عميمة، عظَّمها ربنا – جل وعلا – بقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [سورة القدر:٢] أي: هل تدري قدر تلك الليلة وما فيها من خير وبركة؟ إنه تفخيم وتعظيم لقدرها، فالله وحده جل في علاه هو الذي يعلم قدرها ومكانتها، وهو الذي أدرانا بخيرها فقال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [سورة القدر:٣].

الله أكبر! ليلة واحدة لا تتجاوز عدة ساعات لكنها عند الله تعالى خير وأفضل من عشرات السنين، إنه لفضلٌ عظيم.

وكلمة خَيْرٌ أسلوب تفضيل بمعنى: أكثر خيرًا وأفضل من ألف شهر، فليلة القدر لا تعادل هذا المقدار ولا تساويه، بل هي خير منه، وأفضل منه، ولا ندري بكم تزيد، ولا مقدار الأفضلية على الألف شهر.

وهل من أحدٍ يستطيع أن يداوم على الطاعة والعبادة ألف شهر دون انقطاع، ودون كلل أو ملل؟

لكن ليلة القدر يمُنُّ الله تعالى على من وُفق للاجتهاد فيها لما هو أفضل من ألف شهر من الطاعة والعبادة.

فهل يصح التغافل عن مثل هذه النفحات؟ وهل يصح الإعراض عن مثل هذا الخير؟ كلّا، وألف كلّا.

فهنيئًا لمن شمّر وجدّ واجتهد.

وهنيئًا لمن أرى الله – تعالى – من نفسه خيرًا.

وهنيئًا لمن صدق مع ربه فصدقه الله – تبارك وتعالى -.

وهنيئًا ثم هنيئًا ثم هنيئًا لمن قُبِل فيها ورُزِق خيرها، جعلنا الله وإياكم منهم.

إخوة الإسلام:

أما عن هدي المصطفى في إحياء ليالي العشر الأواخر من رمضان فكما جاء في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – قالت: ”كان النبي  إذا دخل العشر شدَّ مئْزَره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله“(12).

و”شدّ المئزر“ له معنيان: إما كناية عن اعتزال النساء من أجل التفرغ للعبادة، وهو الراجح، وإما كناية عن الجد والتشمير والاجتهاد في العبادة، والمعنى واحد، فكلاهما يدل على أخذه  بأسباب الجدِّ والاجتهاد.

”وأحيا ليله“: فهو مستيقظ طوال الليل أو أكثره ليتعبد لربه  بالقيام، والتلاوة، والدعاء، والمناجاة، والذكر وغير ذلك مما يتقرب به العبد لربه، وقد ورد تفصيل ذلك في قوله – صلوات ربي وسلامه عليه -: من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه(13)، فالقيام في ليلة القدر من أجَلِّ الأعمال وأفضلها.

ومن ذلك أيضًا تلاوة القرآن، فهي ليلة نزوله وشُرّفت من أجله.

كذلك الدعاء والاستغفار، وطلب المغفرة من الله تعالى، كما ورد عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: قلت: يا رسول الله أرأيتَ إنْ علمتُ أيُّ ليلةٍ لَيلَةُ القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني(14).

عباد الله:

ما أحوجنا جميعًا لطلب المغفرة والعفو من ربنا – تبارك وتعالى -، فتضرّعوا – عباد الله -، والهجوا بالدعاء والاستغفار، فإن ربكم عفوٌ يحب العفو، وكريم يحب الكرم، ورحيم يحب الرحمة، كما أنه – جل وعلا – شكور يحب الإحسان في العطاء، فليس أمامكم فرصة أعظم من هذه الفرصة، فاغتنموها فلعلها الأخيرة، وقد لا تعود أبدًا.

وكان من هديه أيضًا أنه يوقظ أهله، يوقظهم للصلاة والعبادة، إنها القوامة والمسؤولية في أبهى صورة، إنها الحياة الإيمانية تغمر الأسرة كلها، فالرجل يأخذ بيد أهله، ويعينهم على طاعة الله، ويحرص على عتقهم من النار ونجاتهم منها؛ عملًا بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة التحريم:6].

وهي سُنّة المرسلين في تعهد الأهل بالطاعة، وحثهم عليها، قال تعالى عن نبي الله إسماعيل – عليه السلام -: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [سورة مريم:55]، وجاء عن نبينا أنه قال: أيقظوا صواحِبَ الحُجَرِ، فربَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ يوم القيامة(15)، وجاء عنه ﷺ – أيضا – أنه قال: رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء(16)، إنهم تراحموا فيما بينهم بالحث والعون على الطاعة؛ فكان لهم الدعاء بالرحمة من نبيهم ، فأنعِم بها من حياة، وأكرِم بها من أسرة.

وكان من هديه في هذه العشر أيضًا: الاعتكاف، فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: “كان رسول الله  يعتكف العشر الأواخر من رمضان”(17).

والاعتكاف هو العبادة التي تمكّنك من فعل سائر الأعمال، وتعينك على الجد والاجتهاد في تلك الأيام، إذ هو الخلوة الشرعية في ديننا، وهو العزلة المحمودة في الإسلام؛ لأنك تمكث في المسجد – بيت الله تعالى – بين المصلين والقانتين، والذاكرين والمنيبين، وتتقلّب بين الصلاة والتلاوة، وبين الذكر والدعاء، والإنابة، منقطعًا عن الدنيا وشواغلها، مبتعدًا عن ملذاتك ورغباتك، ترجو رحمة ربك، وتخشى عذابه، وتطمع في عفوه وغفرانه.

هكذا – عباد الله – كان حال النبي في أواخر شهركم هذا، فهي حال من عرف ربه، وعرف نعمته عليه، فقابلها بالشكر والطاعة، والعمل والعبادة.

فحريٌّ بنا أن نتأسى به ؛ فتكون حالُنا حالَ المفتقر لعفو الله – تعالى – ورضوانه، والراجي لرحمته وغفرانه، وحالَ من عرَّضَ نفسه لنفحات ربه عسى أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدًا.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، قد أفلح المستغفرون.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إنعامه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد، وعلى آله، وصحابته، وإخوانه أما بعد:

الحديث على ليلة القدر حديث ذو شجون، والشوق لها يحدو القلوب إلى طلب بلوغها، ونيل شرفها، ومن هنا كان السؤال المعهود من الكثيرين: في أي ليلة من ليالي العشر تكون ليلة القدر؟ وهل هي محددةٌ بليلةٍ بعينها أم لا؟

وقد أجاب النبي عن ذلك تفصيلًا في عدة أحاديث بروايات كثيرة، وإن أردت أن تحوز الخير كله فخذ بحديث أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – حين قالت: كان رسول الله يجاور (أي: يعتكف) في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان(18)، فهذه الرواية جمعت كل الروايات والاختلافات الواردة في تعيين وقت ليلة القدر، وإن كانت بعض الروايات التي وردت بالتعيين صحيحة السند من أنها في ليالي الوتر، أو أنها في ليلة معينة، وهناك روايات تدل على الليالي الزوجية إلى غير ذلك مما ورد، ولكن الراجح أنها غير معلومة، وقد أخفاها الله – تبارك تعالى – لحكمة عظيمة قد لا نعلمها، ولكن الخير كلّ الخير فيما اختاره الله لنا، وقضاه، وقدّره؛ فالأسلم الاجتهاد في العشر كلها لمن أراد اليقين في إدراكها.

كما أن من اجتهد في الجميع فقد أتم قيام الشهر، ونال ثواب قيامه، وحصل له ضمن ذلك قيام ليلة القدر، ويكون قد صدق مع ربه – تبارك وتعالى -؛ لأنه قام لله في كل الليالي، وعَبَدَ الله في الشهر كله.

أما من اقتصر الأمر عنده على ليلة معينة فقط يأتي لقيامها ثم يعود بعدها لحاله التي كان عليها من التكاسل والغفلة؛ فهذا يفوّت على نفسه خيرًا كثيرًا؛ كما لا يضمن بيقين موافقة ليلة القدر.

وإنَّ من علامات التوفيق أن يكون العبد متعلقًا بالخالق المعبود، ولا ينشغل بالنعمة عن المنعم، فالنعمة زائلة، والمنعم باقٍ لا يزول.

ومن علامات التوفيق: المداومة على العبادة والطاعة، فربُّ ليلة القدر هو رب سائر الليالي، فلا تنشغل بأي ليلة هي، وانشغل بطاعة ربك في كل الليالي فإنك تدركها لا محالة.

وقد استنبط بعض العلماء استحباب كتمان ليلة القدر لمن رآها، وعلَّل ذلك بأن الله ​​​​​​​ قدّر لنبيه  أنه لم يخبر بها، والخير كله فيما قَدَّر له، فيستحب اتباعه في ذلك.

وذُكر أن الحكمة في الكتمان أنها كرامة، والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلاف، من جهة رؤية النفس؛ فلا يأمن السلب، ومن جهة أن لا يأمن الرياء، ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر لله بالنظر إليها، وذكرها للناس، ومن جهة أنه لا يأمن الحسد فيوقِع غيره في المحذور(19).

نسأل الله ​​​​​​​ أن يبلغنا ليلة القدر، ويجعل لنا فيها أوفر نصيب، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

اللهم صلّ على نبينا محمد في الأولين، وصل عليه في الآخرين، وصل عليه في كل وقت وحين.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، إنك سميع مجيب الدعوات.

اللهم ارحَم المسلمين، اللهم اغفر لنا ولهم، اللهم اغفر لنا ولهم، اللهم اغفر لنا ولهم يا غفور يا رحيم.

اللهم ارحم ضعفنا، وتولّ أمرنا، واجبر كسرنا، وأحسن خلاصنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

اللهم ارفع عنا البلاء والوباء والغلاء، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.

اللهم الطُف بعبادك المؤمنين، اللهم الطُف بعبادك المؤمنين، اللهم الطُف بعبادك المؤمنين، اللهم أنزِل عليهم رحمةً من رحماتك يا ذا الجلال والإكرام تُغنيهم بها عمن سواك، تُصلِحُ بها أحوالَهم، وتلُمُّ بها شعَثَهم.

اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم عافنا واعف عنا، وعلى طاعتك أعنّا، ومن شرار خلقك سلمنا، وإلى غير بابك لا تكلنا.

اللهم لا تجعل فينا شقيًّا ولا محرومًا، اللهم لا تجعل فينا شقيًّا ولا محرومًا، اللهم اجعلنا من أهل الفلاح والسعادة، اللهم اجعلنا من أهل الفوز والنجاح يا حيُّ يا قيُّوم.

اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم فك أسرانا وأسرى المسلمين، وأهلك أعداء الدين.

اللهم انفَعنا بهدي القرآن، اللهم انفَعنا بهدي القرآن، وبسُنَّة سيد ولد عدنان – عليه أفضل الصلاة والسلام -، آمين، آمين.

عباد الله.. اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


  1. رواه البخاري (2743)، ومسلم 10- (1629).
  2. رواه ابن حبان (339).
  3. رواه الترمذي (2142).
  4. سلسلة الأحاديث الصحيحة (1645).
  5. رواه ابن حبان في صحيحه (409).
  6. رواه النسائي في سننه، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهداء، رقم (1953).
  7. رواه مسلم 8 – (1175).
  8. رواه مسلم 7- (1174).
  9. ينظر كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 364)، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري (11/ 139).
  10. ينظر شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/ 159).
  11. تفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 246).
  12. رواه البخاري (2024).
  13. رواه البخاري (35)، ومسلم (176- 760).
  14. رواه الترمذي (3513)، وأحمد (25384).
  15. رواه البخاري (115)، وابن حبان (691) واللفظ له.
  16. رواه أبو داود في سننه (1308) والنسائي في السنن الكبرى (1302)، وأحمد في المسند (7410).
  17. رواه البخاري (2025)، ومسلم 1 – (1171).
  18. رواه البخاري (2020) ومسلم 219 – (1169).
  19. فتح الباري لابن حجر (4/ 268).