هدي النبي ﷺ في رمضان

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [سورة النساء:1].

فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعدُ:

أيها المسلمون: يقول ربكم – تبارك وتعالى -: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [سورة الأحزاب:21].

فلقد خلق الله تعالى محمداً أكمل الناس، وجعله قدوةً للخلق في عبادته، وخُلُقه، وسُلوكه، وأحواله كلها، وفرض عليهم اتباعه، والائتساء به، فلا نجاة لهم من المهالك والمعاطب، ولا وصول لهم إلى السعادة في دنياهم وأخراهم، ومغفرة خالقهم ورضوانه؛ إلا باقتفاء آثاره، والسير في سبيله.

أيها المسلمون: ونحن إذ نستقبل شهر رمضان المبارك حريٌّ بنا: أنْ نتعرف على هدي الرسول  في هذا الشهر الكريم، حتى ننال أفضل الأجر وأعظمه، ويكون ذلك دافعاً لنا، ومحفزاً لعزائمنا أن نقتدي بنبينا، ونلتمس هديه ، ونستغل رمضان استغلالاً شرعياً كاملاً، كما استغله النبي القدوة عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

عباد الله: فلنقف على جزءٍ من حياته وأحواله في رمضان، فلقد كان هديه  في رمضانَ أكملَ الهدي، وحاله أعظم حالٍ.

أيها الصائمون: إن حال النبي  لم يكن في رمضان كحاله في غيره من الشهور، فقد كان مليئاً بالطاعات والقربات والمجاهدات، واستغلال الأوقات والساعات أضعاف غيره من الشهور وذلك لعلمه بما لهذه الأيام والليالي من فضيلة خصها الله – تبارك وتعالى – بها، وميزة ميزّها الله عن سائر أيام العام.

ولقد غَفَرَ الله لنبيه ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا كان أشد الأمة اجتهاداً في عبادةِ ربه – تبارك وتعالى -، وقيامه بحقه، فكيف حالنا نحن المقصرون المذنبون؟!

وإليكم – إخوة الإيمان – طرفًا من اجتهاد خير البشر  في العبادة في رمضان:

كان من هديه  إذا دخل رمضان أنه يجدّ ويجتهد في عبادة ربه، ويخص رمضان من العبادة بما لا يخص به غيره من الشهور.

وكان يُرغِّب أصحابه بالاجتهاد في قيام رمضان فقال : من قام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه(1).

وكان يقوم رمضان أحسن قيام، ويطيل في صلاة القيام جدًّا، فيصلي صلاةً لا تسل عن حسنها وطولها، لا كما يفعل بعض الناس اليوم ينقر الصلاة نقراً، فكان يقرأ بترسّل، يسبّح عند التسبيح، ويحمد عند التحميد، ويطلب الجنة إذا مر ذِكْر الحنة، ويتعوذ من النار إذا مر ذكر النار، وهكذا.

وكان من شدة حرصه  على استغلال رمضان في العبادة يواصل فيه أحيانًا، فيصل الليل بالنهار صائمًا ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة، وكان ينهى أصحابه عن الوصال، ويبين لهم أنه من خصوصياته .

وكان النبي  يخُصُّ العشر الأواخر من رمضان بمزيد من الاهتمام والاجتهاد في العبادة؛ وذلك لفضلها، واشتمالها على ليلة القدر.

فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “كان رسول الله  يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره”(2)، وقالت – رضي الله عنها -: “كان رسول الله  إذا دخل العشر شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله”(3)، وقولها: “وشد مئزره” كناية عن اعتزاله للنساء، وقيل: كناية عن شدة الجد والاجتهاد في العبادة، وكلاهما محتمل كما قال أهل العلم، وقولها: “أحيا ليله” أي: بالصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، وقد جاء في بعض روايات الحديث: أنه يخلط العشرين بنوم وصلاة، فإذا دخل العشر أحيا ليله كله.

ومما كان النبي يخص به العشر الأواخر: الاعتكاف في المسجد؛ ليقبل على الله – تعالى – بالذكر والصلاة، وقراءة القرآن، ويقطع نفسه وفكره عن الاشتغال بأمور الدنيا.

فالاعتكاف مشروع في رمضان وغيره من أيام السنة، لكن يتأكد استحبابه في رمضان، وآكده وأفضله في العشر الأواخر منه.

فيستحب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان تأسياً بالنبي ، وإنما كان يفعل ذلك قطعًا لأشغاله، وتفريغًا لباله، وتخليًا لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وتحريًا لليلة القدر.

عباد الله:

ومن هدي نبيكم في هذا الشهر: مراجعته  للقرآن، فقد كان يراجع القرآن كاملًا مع جبريل كل عام، حتى راجعه في عامه الأخير مرتين.

ومن هديه : أنه كان يُعلّم المسلمين آداب الصيام، وحقيقته النافعة، وأكد في عدة أحاديث نبوية على الارتباط الوثيق بين الصيام، وحسن الخلق، والتقوى، والاستقامة في كل الأمور، فكان يومُ صومِه أحسنَ الأيام، وأخلاقُه أحسنَ الأخلاق، وعبادته أكمل العبادات.

وكان يأمر بحُسن الخلق، وينهى عن سيئه، ويرشد إلى أن ترك البذيء من الأخلاق أعظمُ من ترك الطعام والشراب، ومن ذلك:

قوله : من لم يدع قول الزور، والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه، وشرابه(4)، وقوله : رب صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر(5)، وقوله : «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحدٌ، أو قاتله؛ فليقل: إني امرؤٌ صائم»(6).

أيها المقتدون:

وكان من هديه : تعجيل الفطر، وكان يبدأ بالفطر قبل الصلاة، ويفطر على اليسير من الرطب، أو التمر، أو الماء؛ على سبيل التيسير، وعدم التكلف في الأمور.

وكان يدعو ربه وقت فطره بخيري الدنيا والآخرة، ومما رُوي عنه عند الإفطار: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله(7)، وكان إذا أفطر عند قوم قال: أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة(8).

وأما هديه في السحور: فكان يؤخره حتى ما يكون بين سحوره وبين صلاة الفجر إلا وقت يسير، قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية، وأمر بالسحور، وأخبر أن فيه (بركة)، والبركة: أصلها الزيادة، وكثرة الخير، وسبب البركة في السحور: أنه يقوي الصائم، وينشطه، ويهون عليه الصيام، وفيه ثواب وأجر، وفيه مخالفة لأهل الكتاب (اليهود، والنصارى).

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يرزقنا اتباع نبينا ظاهرًا وباطنًا.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم من كل ذنب، وأتوب إليه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعدُ:

أيها المسلمون: وكان من هديه: الجود في هذا الشهر، فإنه كان أكرم الناس، وأجودهم، وأبذلهم لما في يده، وكانت نفقته في رمضان أعظم النفقات؛ بل كان أجود ما يكون في شهر رمضان، وأجود بالخير من الريح المرسلة؛ وذلك لأن البر، والإنفاق، والإحسان للخلق، ونفعهم من العبادات المتعدية، فهي أفضل من العبادات القاصرة، يقول ابن القيم – رحمه الله -:

“وكان من هديه في شهر رمضان: الإكثارُ من أنواع العبادات، فكان جبريلُ – عليه الصلاة والسلام – يُدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل  أجودَ بالخير من الريح المرسلة، وكان أجودَ الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يُكْثِرُ فيه مِن الصدقة، والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذِّكرِ، والاعتكاف، وكان يَخُصُّ رمضانَ من العبادة بما لا يَخُصُّ غيرَه به من الشهور”(9).

أيها الصائمون: وكان من هدي النبي في هذا الشهر: الجهاد في سبيل الله،  فليس هذا الشهر – عباد الله – شهر كسل ونوم، وتراخٍ، تذرعًا بالصيام؛ كما يظن بعض الناس، فكان رسول الهدى  يخرج في رمضان مجاهداً في سبيل الله، فكانت أعظم الغزوات وأجلها وهي غزوة بدر في رمضان، وما فتح الله عليه مكة إلا في رمضان.

إخوة الإيمان: وأما هديه  في معاشرته لأهله في هذا الشهر: أنه كان رسول الله  حَسَنَ العِشرة، طيِّب النفس، حلو الكلام، يُقبل نساءه وهو صائم، ويباشر وهو صائم، وهو أملك الناس لإربه، وشبه القبلة بالمضمضة بالماء في عدم التأثير على الصوم، وكان يصبح جُنبًا من جماع فيدركه الفجر وهو جُنب، فيغتسل بعد طلوع الفجر ويصوم.

وكان يصب الماء على رأسه وهو صائم، ويتمضمض ويستنشق وهو صائم، وينهى الصائم عن المبالغة في الاستنشاق، وكان يتسوّك وهو صائم، ولم يرد عنه كراهية السواك للصائم بعد الزوال كما يقول بعض الفقهاء.

عباد الله: هذا هو هدي نبيكم ، وتلك هي طريقته، وسنته، وهذا هو حاله في هذا الشهر، فما أحوجنا إلى الاقتداء والتأسي به في عبادته، وتقربه! فالمسلم وإن لم يبلغ مبلغه فليسدد وليقارب، وليعلم أن النجاة في اتباعه، والسير على منهجه.

وهديه  في رمضان هو الأسوة والقدوة في الجِد والاجتهاد في عبادة الله، وألاّ يضيع ساعات هذه الأيام والليالي الثمينة؛ فإن المرء لا يدري لعله لا يدركها مرة أخرى.

نسأل الله أن يجعلنا متأسين بسنة نبيه ، مهتدين بهديه، وأن يستعملنا في طاعته، ويجنبنا معصيته، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يوفقنا لقيام رمضان وصيامه إيماناً واحتساباً، ويتقبله منا، ويجعلنا ممن وفق لقيام ليلة القدر، وأن يعلي هممنا، ويقينا شرور أنفسنا.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.


  1. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان برقم (37) ومسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان برقم (759).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان برقم (1175).
  3. أخرجه البخاري في كتاب فضل ليلة القدر، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان برقم (2024)، ومسلم في الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان برقم (1174).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور، والعمل به في الصوم برقم (1903).
  5. أخرجه ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم برقم (1690) وقال الألباني: “حسن صحيح”.
  6. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم برقم (1904) ومسلم في الصيام، باب فضل الصيام برقم (1151).
  7. أخرجه أبو داود في باب القول عند الإفطار، باب القول عند الإفطار برقم (2357) وحسنه الألباني.
  8. أخرجه ابن ماجه في كتاب الصيام، باب في ثواب من فطر صائماً برقم (1747) وصححه الألباني.
  9. زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 32).