مقاصد الصيام والحكمة من تشريعه

الحمد لله الذي شرع لعباده الصيام، وجعله ركنًا ركينًا من أركان الإسلام، وفصّل الحديث عنه في غير آية من آيات القرآن، والصلاة والسلام على خير الأنام محمد وعلى آله وصحبه أهل الفضل الكرام.

فها هي نسائم شهر رمضان المبارك تغمرنا بما فيها من أريج الطاعات والقربات، وفيض العطايا والرحمات، فلقد اختص الله – سبحانه – هذا الشهر بعدد من الخصائص، وفضّله بعدد من الفضائل، وميّزه بعدد من العبادات، ويأتي في مقدمتها عبادة الصيام، فما هي مقاصد هذه العبادة؟ وما الحكمة من تشريعها عباد الله؟

أيها المسلمون: إن معرفة مقاصد العبادات وحكمها يعين في الإقبال عليها، والقيام بها على الوجه الأمثل، وهذا لا يتعارض مع مقتضى العبودية والتسليم لأمر الله – سبحانه -، بل أرشدنا إليه القرآن عند الحديث عن الصيام حيث ذكر المولى – سبحانه – أعظم مقاصد الصيام ألا وهو تحقيق التقوى فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183].

فتحقيق التقوى – إخوة الإيمان – من أعظم المقاصد والمطالب التي ينبغي للمسلم أن يحرص على تحقيقها، فالله – سبحانه – خلق الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لعبادته وتقواه ​​​​​​​  قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:21].

فجوهر التقوى هو تحقيق مراقبة الله – سبحانه – في السر والعلن، وهذا ما يربّيه الصيام في قلب المؤمن، يقول الشيخ السعدي – رحمه الله – في تفسيره: “ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل، والشرب، والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقربًا بذلك إلى الله، راجيًا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى، ومنها: أن الصائم يدرّب نفسه على مراقبة الله – تعالى -، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه؛ لعلمه باطلاع الله عليه”(1).

ومن مقاصد الصيام عباد الله: تزكية النفس وتطهيرها من سيئ الأخلاق، ورذيل الصفات، وذلك أن الصائم حال تلبسه بهذه العبادة يدرّب نفسه على محاسن الأخلاق، والبعد عن قول الزور والفحش، واللغو والرفث، وهذا مقصد كبير من مقاصد الصيام.

قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: “يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة، وآمرًا لهم بالصيام وهو: الإمساك عن الطعام، والشراب، والوقاع بنية خالصة لله – عز وجل -؛ لما فيه من زكاة النفس، وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة”(2).

وأكّدت ذلك السنة المطهرة فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : مَنْ لم يَدَع قولَ الزُّور، والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامَه، وشرابَه [رواه البخاري]، وجاء في الحديث الذي يرويه النبي عن ربِّ العزة: …وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرفُثْ، ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه، فليقُلْ إني امرؤٌ صائمٌ [متفق عليه]، فالمسلم إذا حافظ بصدق على هذه الأخلاق خلال شهر الصيام يُرجى أن تصير هذه عادته وطبيعته طوال العام.

أخوة الإيمان: ومن مقاصد الصيام أيضًا: أنه يضيّق مجاري الشيطان في ابن آدم فيقل نزوعه إلى فعل المعاصي والذنوب، بل تميل نفسه إلى فعل الطاعات، والتقرب إلى ربِّ الأرض والسماوات يقول الشيخ السعدي – رحمه الله -: “الصيام يضيّق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي … وأن الصائم في الغالب تكثر طاعته”(3).

لذلك كان النبي ينصح الشباب بالصيام إن عجزوا عن النكاح لما له من الآثار العظيمة في كبح النفس، وكسر وطأة الشهوة، فقد ثبت في الصحيحين قوله : يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء [متفق عليه].

ومن مقاصد الصيام كذلك: أنه يشعر الأغنياء بحاجة الفقراء، فتلين قلوبهم في الإنفاق عليهم، ويسارعون إلى مساعدتهم، وهذا نلاحظه كثيرًا في شهر رمضان يقول المفسرون في الحديث عن مقاصد الصيام: “منها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع؛ أوجب له ذلك مواساة الفقراء المُعْدمين”(4).

نسأل الله – سبحانه – أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.

أيها المسلمون:

بعدما تحدثنا عن بعض مقاصد الصيام ينبغي ألا نغفل عن مشاهدة مظاهر الرحمة في تشريعه، فمع عِظم مقاصد هذه العبادة، وشدة حاجة العبد لها؛ فإنها لا تخلو من مظاهر الرحمة الإلهية في فرضيتها، فهيا بنا نقف وقفات سريعة مع بعض مظاهر الرحمة التي تغمر تشريع الصيام؛ لنزداد محبة وإقبالًا على هذه الشعيرة العظيمة:

فأولى مظاهر الرحمة في فرضية الصيام عباد الله: أن الله – سبحانه – لم يأمر عباده بصيام الدهر كله بل كلفهم ببعض الأيام المعدودات فقال تعالى: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ [سورة البقرة: 184]، وذلك رحمة بهم، ولعلمه بضعفهم يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: “ثم بين مقدار الصوم، وأنه ليس في كل يوم؛ لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه، بل في أيام معدودات”(5).

ومن مظاهر الرحمة في فرضية الصيام أيضًا: أنه الله – سبحانه – رفع الحرج عن المريض، والمسافر؛ بأن يترك الصيام، ويقضيه في أيام أُخر؛ حتى لا يفوتهما مقاصد الصيام، وما فيه من المصالح فقال تعالى: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ.. [سورة البقرة:184]، وقال في الآية التي تليها: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.. [سورة البقرة:185] جاء في تفسير هذه الآية: “رخّص الله لهما – أي: المريض والمسافر – في الفطر، ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض، وانقضى السفر، وحصلت الراحة”(6).

وتلحق بالمريض والمسافر كذلك الحائض والنفساء، فقد رُفع الحرج عنهما في ترك الصيام مع القضاء في أيام أُخر رحمة بهما، ومراعاة لضعفهما، أما كبار السن، وأصحاب الأمراض المزمنة التي يصعب معها الصيام؛ فقد جعل الله لهم فدية عن صيامهم جبرًا لخواطرهم، ورفعًا للحرج والمشقة عنهم برحمته وفضله – سبحانه -.

أحبتي في الله: ومن مظاهر الرحمة في فرضية الصيام كذلك: أنه – سبحانه – أحل لعباده ليلة الصيام ما كان محرّمًا عليهم وقت الصيام من الطعام، والشراب، والجماع رحمة بهم، ورفعًا للمشقة عنهم، فقال سبحانه: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ.. [سورة البقرة:187] يقول الإمام ابن كثير – رحمه الله -: “هذه رخصة من الله – تعالى – للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل، والشرب، والجماع إلى صلاة العشاء، أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام، والشراب، والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة..، وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر، ويماسه، ويضاجعه، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان؛ لئلا يشق ذلك عليهم”(7).

أيها الأحبة في الله: هكذا رأينا من خلال هذه الوقفات شيئًا من مقاصد الصيام، ومظاهر الرحمة المتضمنة فيه، وتظل الحكم والمقاصد وأسرار العبادات بابًا عظيمًا يجلّي الله لنا منه ما شاء، ويخفي عنا منه ما شاء، ويظل المسلم على يقين أن الله – سبحانه – لا يكلفه إلا بما في وسعه، وبما فيه نفعه في الدنيا والآخرة.

فاتقوا الله عباد الله .. وأقبلوا على ربكم – جل وعلا – بالطاعات، واعمرُوا شهركم بالصيام والقيام إيمانًا واحتسابًا، وسائر القربات من الذكر، والتلاوة، والصدقات، ولا تفرطوا فيما بين أيديكم من الرحمات والنفحات.

اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا، وأصلح لنا شأننا كله.

اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك…

وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم.


  1. تفسير السعدي: (ص: 86).
  2. تفسير ابن كثير: (1/ 497).
  3. تفسير السعدي: (ص: 86).
  4. تفسير السعدي: (ص: 86).
  5. تفسير ابن كثير: (1/ 497).
  6. تفسير السعدي: (ص: 86).
  7. تفسير ابن كثير: (1/ 510).