رمضان وسحائب الخير

الحمد لله، الحمد لله الذي أفاضَ علينا من خيره، ولم يزَل يُفيض، يدُه سحَّاء الليل والنهار، لا تُعجِزها نفقةٌ ولا تغيض، له المحامدُ والمكارم فلا يُحيطُ بحمده نثرٌ ولا قَريض، أحمده تعالى وأشكره، وأُثني عليه وأستغفره، تفضَّل علينا بسيد الشهور، ويسَّر لنا فيه ما نحوزُ به عظيمَ الأجور، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وليّ الصابرين الصادقين، القانتين المنفقين المستغفرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والنشور.

أما بعد: فأبشروا – أخوة الإيمان – ببشرى رسول الله لكم بقدوم هذا الشهر المبارك شهر رمضان الكريم، بشرى تحمل لكم سحائب الخير في هذا الشهر، بشرى تحفز النفس وتؤهلها لاستثمار موسم البركات والنفحات، بشرى لكي لا تترك وقتك إلا وقد شغلته في طاعة أو عبادة.

فانتبهوا – معاشر الموحدين – لما يسوقه رسولنا في هذه البشرى المباركة:

عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : أتاكُم رَمضانُ شَهرٌ مبارَك، فرَضَ اللَّهُ​​​​​​​ عليكُم صيامَه، تُفَتَّحُ فيهِ أبوابُ السَّماءِ، وتغَلَّقُ فيهِ أبوابُ الجحيمِ، وتُغَلُّ فيهِ مَرَدَةُ الشَّياطينِ، للَّهِ فيهِ ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شَهرٍ، مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ(1).

حقًّا – معاشر المؤمنين – إنها لبشرى عظيمة أن تبلغ شهر رمضان، وأن يغمرك هذا الشهر بخيره العميم، وبركته العظيمة، فوفرة الخير فيه معلومة، وتنوع الفضائل فيه مشهودة، وما عليك أخي المسلم إلا أن تشمّر عن ساعديك، وتنهل من هذه الفضائل، وتأخذ منها بحظ وافر، فتسعد أيما سعادة.

فلنعش – عباد الله – مع هذه البشرى، ونتعرف على ما تحمله من خيرات لنا لنجِدَّ في تحصيلها، إذ العلم بالخير يُؤذِن بحبه، والمسارعة إليه، لا سيما أنه أتى على لسان نبينا  بأسلوب جذاب في هيئة بُشرى، مما يحمل السامع على تلقي الخبر بسرور وسعادة، ويحفّزه على التشمير والاجتهاد، والهمة والسبق.

وفي الرواية الأخرى عند الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة  قال: “لما حضر رمضان قال رسول الله  “(2) أي: أن النبي استثمر فرصة دخول شهر رمضان، وفي أول ليلة أخذ يبشّر ويحفّز ويذكّر، فبأي شيء ذكّر؟!

أول ما ذكّرنا به المصطفى هو قدوم رمضان أتاكم رمضان، وفي رواية أحمد: قد جاءكم رمضان، وهذا يشعرنا بأن مجرد سماع اسم هذا الشهر الكريم يعني: أنه شهر له شأن، وشهر له مكانة، وشهر له فضله، وشهر عظيم، فانتبهوا إلى ذلك أيها الناس فإن الذي جاءكم ليس مثل بقية الشهور، ولكنه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وافترض الله فيه ركنًا من أركان الإسلام.

نعم – عباد الله – إنه الشهر الذي اختصه الله ​​​​​​​ بالخيرات، فما حوى شهر من الشهور ما حواه شهر رمضان من الفضائل والبركات، وهذا ما وصفه به رسول الله في هذا الحديث فقال: قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، فالبركة فيه أصيلة، والبركة فيه ثابتة، فهو كثير الخير الحسيّ والمعنويّ.

وعدّد رسول الله بعض هذا الخير في بقية الحديث فقال: فرَضَ اللَّهُ ​​​​​​​ عليكُم صيامَه، تُفَتَّحُ فيهِ أبوابُ السَّماءِ، وتغَلَّقُ فيهِ أبوابُ الجحيمِ، وتُغَلُّ فيهِ مَرَدَةُ الشَّياطينِ، للَّهِ فيهِ ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شَهرٍ، مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ، وفي رواية أخرى: وينادي منادٍ: يا باغي الخيرِ أقبلْ، ويا باغي الشّرِّ أقصرْ، ولله عتقاءُ من النار، وذلك كل ليلةٍ(3).

إخوة الإيمان: إن أول خير ذكّرنا به رسول الله في بشراه هذه هو الصيام، فهو فريضة الله تعالى على عباده، والفرائض هي أحب ما يتقرب به العبد لربه تبارك وتعالى كما جاء عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه … الحديث(4).

والصيام كما أخبر الحق  سبيل المؤمنين لتقوى الله ​​​​​​​ كما في أولى آيات الصيام قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183]، فالتقوى هي علة الصيام، وهدفه الأسمى، وتحقيقها هو أعظم خير يحصّله المؤمن من هذا الشهر، إذ بها يحرص العبد على فعل أوامر الله وفرائضه، ويحرص أيضا على استكمال الواجبات والمستحبات، وبها يبتعد عن المعاصي والسيئات.

والتقوى هي الدينُ كله قال ​​​​​​​: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة:177].

وفي التقوى الخير كله في الدنيا والآخرة كما روي عن أبي ذر  قال: جعل نبي الله يتلو هذه الآية: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [سورة الطلاق:2] حتى ختم الآية، ثم قال: يا أبا ذرٍّ لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم(5).

فأنعم به من خير يحصّله العبد المسلم من صيام هذا الشهر الكريم، وأنعم بها من ثمرة، وهي تقوى الله ​​​​​​​ ، والتي تجعل صاحبها مستعدًّا لاستثمار الخير الوفير في هذا الشهر المبارك.

عباد الله: أما عن وجوه الخير الأخرى في رمضان فكثيرة ومتنوعة، متنوعة باختلاف الليل والنهار، ومتنوعة باعتبار الفرد والجماعة، وبين الواجب والمستحب.

وإذا أردت – أخي الصائم – أن تبدأ بعد ذلك بالخير الجامع، ونبع الخير والبركات؛ فعليك بتلاوة القرآن وتدبره؛ لأن الله ما شرَّف رمضان وفضَّله إلا بنزول القرآن فيه قال ​​​​​​​: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [سورة البقرة:185]، فعرّف الله شهر رمضان لخلقه بأنه شهر نزول القرآن، كما شرف الليلة التي نزل فيها، وباركها بذلك قال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [سورة الدخان:3]، لذا كانت تلاوته من أهم العبادات التي يقوم العبد بها في رمضان.

وكذلك كان يفعل جبريل  مع رسولنا من مدارسة للقرآن كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله  أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة(6).

إن هذا القرآن العظيم – إخوتي في الله – هو حياة قلوبنا، نتزود منه فنحيا من الممات الذي نعيشه، ونستفيق به من الغفلة التي تحيطنا قال الحق جل في علاه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52]، وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ۝ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة يس:69-70] أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:122].

لا نريد تلاوةً لحروفه دون أن نتأثر بحدوده، لا نريد أن نكثر من الختمات، ونتسابق فيها، ونترك الغاية من وراء تلك التلاوة، فالله ​​​​​​​ يحث على التدبر في القرآن: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [سورة النساء:82] وجعله الغاية من إنزال كتابه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [سورة ص:29] قال السعدي – رحمه الله -: ”كلما ازداد العبد تأملًا فيه ازداد علمًا وعملاً وبصيرة؛ لذلك أمر الله بذلك، وحث عليه، وأخبر أنه هو المقصود بإنزال القرآن كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا.

ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه يوصل العبد إلى درجة اليقين، والعلم بأنه كلام الله؛ لأنه يراه يصدّق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا“(7).

وقال في تفسير قوله تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [سورة المؤمنون:68]: ”أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي أفلا يتفكرون في القرآن، ويتأملونه، ويتدبرونه أي: فإنهم لو تدبروه لأوجب لهم الإيمان، ولمنعهم من الكفر، ولكن المصيبة التي أصابتهم بسبب إعراضهم عنه، ودل هذا على أن تدبر القرآن يدعو إلى كل خير، ويعصم من كل شر، والذي منعهم من تدبره أن على قلوبهم أقفالها“(8).

وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود : ”لا تَهُذُّوا القرآن هذَّ الشِّعر، ولا تنثروه نثْرَ الدَّقَلِ، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب“(9)، وفي رواية: ”اقرؤوا القرآن، وحركوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة“(10).

وعن معنى التدبر قال صاحب الكشاف: ”معنى تدبر القرآن: تأمل معانيه، وتَبَصُّر ما فيه“(11).

وقال القرطبي: ”هو التفكر فيه، وفي معانيه“(12).

وقال السعدي: “هو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك”(13).

فلنحرص عباد الله على هذا الخير العظيم والفضل العميم لتلاوة كتاب الله وتدبره في الشهر الفضيل؛ فإنه عبادة الشهر الكبرى التي لم يزل سوق التنافس فيها قائمًا من لدن سلفنا الصالح فمن بعدهم، فاغتنموا فرص الشهر، وواسع الفضل والأجر.

أيها المسلمون: ومن الخير الثابت اللازم لرمضان: صلاة القيام أو التراويح كما جاء عن أبي هريرة  أن رسول الله قال: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه(14)، وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه(15).

وفضائل القيام كثيرة وعظيمة:

  • منها أنه طريق الصالحين وعادتهم كما جاء عن أبي أمامة  عن رسول الله أنه قال: عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة للإثم(16).
  • وهو أفضل الصلاة بعد الفرائض كما جاء عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل(17).
  • وهو مظنة قبول الدعاء فعن جابر  قال: سمعت النبي يقول: إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة(18).
  • وينفي عن صاحبه الغفلة، ويكتب في الذاكرين فعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله : إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعا؛ كتبا في الذاكرين والذاكرات(19).
  • وميزة خاصة به في رمضان عن أبي ذر  قال: قال رسول الله : إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة(20).

إخوة الإيمان: ومن الخير الذي قرنه الله – تبارك وتعالى – بالصيام ورمضان: الدعاء، فجاء كلام الله ​​​​​​​ عن الدعاء في وسط آيات الصيام وأحكامه وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ وكأنها إشارة إلى الملازمة التامة بين الصيام والدعاء، هذا التلازم أكده لنا الصادق المصدوق في قوله: ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم(21).

وإذا كان الدعاء له أوقات كثيرة طوال العام هي مظنة الإجابة؛ فما بالكم بأيام وليالي رمضان؟! عن جابر  قال: سمعت النبي يقول: إن في الليل لساعة لا يوافِقُها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة(22).

عباد الله: ورمضان الخير هو شهر الإنفاق والجود والكرم، فهي صفة لا تنفك أبدًا عن هذا الشهر الكريم.

والجود والإنفاق هو أثر من آثار النفس المؤمنة التي ارتوت من القرآن، وشبعت من تقوى الله، وأطالت الوقوف بين يدي الله تناجيه وتسأله من فضله وكرمه وعفوه، فجادت بما لديها، وأنفقت مما رزقها الله ​​​​​​​ .

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل(23).

وإن تعجب فاعجب من رحمة الله تعالى بنفسية وحاجة المنفق، وكيف يهوّن عليه أمر المال الذي هو شقيق النفس فعن أبي هريرة  : أن رسول الله قال: قال الله – عز وجل -: أَنْفق أُنْفقْ عليك(24)، وكذا الحال مع النبي فعن أبي هريرة  عن رسول الله قال: ما نقصتْ صدقةٌ من مال(25) ففي هذا طمأنة للنفوس بأن ما تنفقه مال مخلوف وتجارة رابحة؛ فضلًا عن ثواب الآخرة العظيم.

وفي تضاعف جوده في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة:

  • منها: شرف الزمان، ومضاعفة أجر العامل فيه.
  • ومنها: إعانة الصائمين، والقائمين، والذاكرين على طاعاتهم؛ فيستحق المعينُ لهم مثل أجرهم بفضل الله ورحمته، وفي حديث زيد بن خالد  قال رسول الله : من فطّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا(26).
  • ومنها أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار لاسيما في ليلة القدر، والله – تعالى – يرحم من عباده الرحماء كما قال : إنما يرحم الله من عباده الرحماء فمن جاد على عباد الله؛ جاد الله عليه بالعطاء، والفضل، والجزاء من جنس العمل.
  • ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة كما جاء في حديث علي  عن النبي قال: إن في الجنة غرفًا يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طيّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام، وهذه الخصال كلها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيام، والقيام، والصدقة، وطيب الكلام“(27)، وعن أبي هريرة  قال: سئل رسول الله : أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تدخل على أخيك المسلم سرورًا، أو تقضي عنه دينًا، أو تطعمه خبزًا(28)، وقال الشافعي – رحمه الله -: “أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله ، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم”(29).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وأتوب إليه.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه أجمعين، وبعد:

أيها المسلمون: إن الله تبارك في علاه قد جعل شهركم العظيم رمضان شهرًا للخير ولأهل الخير، فعدّد فيه الخيرات، وكثّر فيه البركات، ثم دعا طالبيه: يا باغي الخير أقبل.

يا باغي الخير أقبل: فالخير كثير وكثير، بل لا حد لكثرة الخير في هذا الشهر الكريم.

يا باغي الخير أقبل: فلا تدري هل تدرك هذا الخير مرة أخرى أم سيكون هذا هو آخر العهد بشهر الخير؟!

يا باغي الخير أقبل: فالسفر طويل، ويحتاج إلى زاد كثير.

يا باغي الخير أقبل: فبالخير تنجو من الفتن وإن كانت مثل قطع الليل المظلم، كما صح عنه : بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا(30).

يا باغي الخير أقبل: فرتّب يومك وليلتك حتى لا يخلو وقت من عبادة، ولا تخلو ساعة من طاعة.

  • فحافظ على الصلاة في جماعة، واعلم أنه واجب عليك دائمًا في رمضان، وفي غير رمضان، فجاهد نفسك، وألزمها الجماعة، وعوّدها التعلق ببيوت الله، ومع كل صلاة صل راتبتها معها، فهو خير عظيم لك.
  • الزم ذكر الله – تعالى – صباحًا ومساء، ودُبُر كل صلاة، ولكل أحوالك، فأنعم بذكر الله – تعالى – من خير ومن جزيل الثواب.
  • رتّب وقتك بين العمل وبين طاعة ربك، واجعل خير وقتك لكتاب الله ​​​​​​​.
  • احرص ألا تفوتك صلاة التراويح مع الإمام حتى ينصرف؛ فإن “من قامَ معَ الإمامِ حتَّى ينصرفَ فإنَّهُ يعدلُ قيامَ ليلةٍ”؛ فلا تهدر هذه الغنيمة.
  • ثم اجعل لنفسك جزءًا من الليل تصلي فيه وحدك، وتخلو فيه بربك.
  • وازن بين أعمالك، ورتب أولوياتك، وأعط كل ذي حق حقه، واجعل لآخرتك أوفر نصيب.
  • استعن دائما بربك، وأسأله العون والتوفيق فهو نعم النصير، وأخلص نيتك يبارك لك في القليل.

ومن الخير أخي المؤمن: أن تقصر عن الشر، وتمتنع عن أسبابه، فكفى بالعبد شرّا أن ينعم الله – تعالى – عليه بهذه النفحات، وبهذه الرحمات – وهو الغني عنه -؛ ولا يتعرض لها، ويغتنمها وهو في أشد الحاجة إليها.

أسأل الله – تعالى – أن يجعلنا أهلاً لرحماته، وأهلاً لبركاته، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعلْنا لكَ شَاكرين، لَكَ ذاكرين، لك رَاهبين، لك مِطواعين، إليك مُخبِتين ومُنيبين.

اللهم اجعلنا في هذا الشهر الكريم من عتقائك من النار، ومن المرحومين، واجعل لنا من الخير فيه أوفر نصيب، اللهم بلغنا ليلة القدر، وارزقنا خيرها وبرَّها وبركتها، واجعلنا فيها من المقبولين.

اللهم ارفع عنا البلاء والوباء، نعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، ومن سيئ الأسقام، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.

اللهم إنا نعوذ بك أن نكون من الغافلين، طهّر يا رب قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا.

اللهم انصر دعوتك، وأعزّ دينك، انصر الإسلام وأعز المسلمين، وانصر جندك الموحدين في مشارق الأرض ومغاربها يا قوي يا متين، اللهم انصر الحق وأهله، واخذل الباطل وحزبه، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، آمين، آمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


  1. رواه النسائي (2106).
  2. رواه أحمد (7148).
  3. رواه الترمذي (682).
  4. رواه البخاري (6502).
  5. وراه النسائي في السنن الكبرى (10/ 305)، وأحمد في مسنده (21551).
  6. رواه البخاري (6)، ومسلم (50- 2308).
  7. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:190).
  8. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:555).
  9. رواه البيهقي في شعب الإيمان (1883).
  10. رواه البيهقي في شعب الإيمان (1884).
  11. الخلاصة في تدبر القرآن الكريم (ص:11).
  12. الخلاصة في تدبر القرآن الكريم (ص:12).
  13. المصدر السابق.
  14. رواه البخاري (37)، ومسلم (173- 759).
  15. رواه البخاري (35)، ومسلم (176- 760).
  16. رواه الترمذي (3549).
  17. رواه مسلم (202- 1163).
  18. رواه مسلم (166- 757).
  19. رواه أبو داود (1309).
  20. رواه الترمذي (806)، والنسائي (1605).
  21. رواه ابن حبان (3428).
  22. رواه مسلم (166- 757).
  23. رواه البخاري (1410)، ومسلم (63- 1014).
  24. رواه البخاري (4684).
  25. رواه مسلم (69- 2588).
  26. رواه الترمذي ت شاكر (807)، وابن ماجة (1746).
  27. نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان (1/ 226).
  28. رواه البيهقي في شعب الإيمان (7273).
  29. لطائف المعارف لابن رجب (ص:169).
  30. رواه مسلم (186- 118).