رمضان والقرآن

الحمد لله الَّذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد ألَّا إله إلَّا الله أنزل القرآن ليخرج النَّاس من الظُّلمات إلى النُّور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيمٍ، وأشهد أنَّ نبيَّنا وقائدنا وقدوتنا محمدًا عبد الله ورسوله ، أيَّده سبحانَّه بالقرآن، وجعله مهيمنًا على سائر الكتب.

أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بخير ما يُوصى به بتقوى الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [سورة النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [سورة الأحزاب:70-71].

أما بعد: ففي شهر رمضان .. في ليلة القدر.. في غار حراء .. في وقت تعبُّد النَّبي .. نزل أمين وحي السَّماء على أمين وحي الأرض قائلًا: اقرأ، وكانت هذه أوَّلُ مرةٍ ينزل فيها القرآن إلى هذه الدنيا، أوَّلُ مرةٍ ينزل فيها أعظم المعجزات الحسِّيَّة والمعنويَّة على الكرة الأرضيَّة، كتابٌ لا ريب فيه، كتابٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كتابٌ يهدي للَّتي هي أقوم، كتاب فيه شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين، كتاب هو المنهج الذي يُسعِد البشريَّة إن تمسكت به، كتاب أعجز البلغاء، وحيَّر الشعراء.

أيها الإخوة الأحباب: لم يصف الله – تعالى – شهر رمضان بأنَّه شهر الصِّيام أو شهر القيام أو شهر الجُّود والإنفاق مع أهميَّة كلِّ هذه العبادات في هذا الشَّهر وغيره، بل وصفه – سبحانَّه – بأنَّه أُنزِل فيه القرآن فقال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [سورة البقرة:185].

نزل القرآن في ليلةٍ هي سيِّدة اللَّيالي، ليلةٍ خيرٍ من ألف شهر، ليلةٍ مباركةٍ، ليلةٍ تتنزل فيها الملائكة، ليلةٍ من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، وهذا كلُّه يدلُّنا – معاشر المؤمنين – على الارتباط الوثيق بين رمضان والقرآن.

فإذا كان هذه هي منزلة القرآن في الشهر الفضيل فكيف كان حال النَّبي  وشأنه مع القرآن في رمضان؟

يخبرنا عن ذلك ابن عبَّاسٍ – رضي الله عنهما – بقوله: «كان رسول الله  أجود النَّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله  حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الرِّيح المرسلة»(1) قال الإمام ابن رجب: دلَّ الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وعَرْض القرآن على من هو أحفظ له، وفيه دليلٌ على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان، وفي حديث فاطمة – رضي الله عنها وعن أبيها – أنَّه  أخبرها أنَّ جبريل  كان يعارضه القرآن كلَّ عامٍ مرَّةً، و أنَّه عارضه في عام وفاته مرَّتين، وفي حديث ابن عبَّاسٍ – رضي الله عنهما – أن المدارسة بينه وبين جبريل  كانت ليلًا دلالة على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلًا، فإنَّ اللَّيل تنقطع فيه الشواغل، ويجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً [سورة المزمل:6](2).

وقد كان النَّبي  يطيل القراءة في قيام رمضان باللَّيل أكثر من غيره، بل حتى في غير رمضان كان يطيل صلاته بالليل، وصلَّى معه حذيفة  ليلةً فقال: «قرأ بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، لا يمر بآية تخويفٍ إلا وقف عندها»(3).

إخوة الإيمان: أمَّا عن ارتباط الصحابة والتابعين ومن بعدهم بالقرآن في رمضان فقد كانوا أصحاب هممٍ عاليةٍ، فعاشوا معه بأرواحهم وقلوبهم، وأعطوه كثيرًا من أوقاتهم، فقد أمر عمر   أُبيَّ بن كعبٍ وتميمًا الداري أن يقوما بالنَّاس في شهر رمضان، فكان القارىء يقرأ بالمائتين في ركعة، ثم كان في زمن التابعين يقرؤون بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعاتٍ، فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعةً رأوا أنَّه قد خفَّف.

وكانوا يُقدِّمون قراءة القرآن على كلِّ العبادات، فقد كان الإمام مالكٌ يفرُّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ليتفرّغ لتلاوة القرآن فقط، وكان سفيان الثوريُّ إذا دخل رمضان يترك جميع العبادة ويقبل على القرآن، وكان الزهريُّ إذا دخل رمضان قال: “إنَّما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام”.

وكان بعض السلف يختم القرآن في كلِّ عشرٍ، وبعضهم في كلِّ سبعٍ، وبعضهم في كلِّ ثلاثٍ، وبعضهم في كلِّ ليلةٍ! وبعضهم كان يختم في كلِّ يومٍ ختمتين قال ابن رجب: “وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقلِّ من ثلاثٍ على المداومة على ذلك، فأمَّا في الأوقات المفضَّلة كشهر رمضان خصوصًا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضَّلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها؛ فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتنامًا للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم”.

الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، ولا عدوان إلَّا على الظالمين، وأشهد ألَّا إله إلَّا الله، البرُّ الكريم، الرَّؤوف الرحيم، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا خاتم الأنبياء والمرسلين .. أما بعد:

عباد الله: وماذا بعد أن وقفنا على هذه الأحوال الشريفة من حال سيد البشر مع القرآن في رمضان، ومن بعده من الصحابة  ومن تبعهم بإحسان؟ وكيف ننتفع بالقرآن العظيم؟

مما يعيننا على ذلك أحبتي في الله
  • أن ندعو الله، ونتضرع إليه أن ينفعنا بكتابه، وأن يعيننا على تدبُّره، والعمل به.
  • أن نستعيذ بالله من الشَّيطان قبل أن نقرأ.
  • أن نتوضأ ونتسوَّك قبل القراءة.
  • أن نراعي تجويد التلاوة كما قال تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [سورة المزمل:3].
  • أن نختار مكانًا هادئًا ليس فيه ضوضاءٌ أو أشياء مشتتةٌ للتركيز.
  • أن نتدبر ونتفكر في الآيات التي نقرؤها.
  • أن نسجد إذا قرأنا أو سمعنا سجدة تلاوة.
  • أن نكرر ونردّد الآيات التي تؤثر في قلوبنا.
  • أن نُحسِّن صوتنا في القراءة، وأن نقرأ قراءةً هادئةً حزينةً.
  • أن نقرأ من مصحفٍ به هامش تفسير؛ لمعرفة معاني ما يُشكل علينا فهمه.

فهذه الوسائل والآداب وغيرها مما جاء الحث عليه تعين – بإذن الله تعالى – على الانتفاع بتلاوة كتاب الله – تعالى -.

أيها المسلمون: لقد أثَّر القرآن في الصحابة  تأثيرًا كبيرًا، فعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء – بنت أبي بكر -: كيف كان أصحاب رسول الله إذا سمعوا القرآن؟ قالت: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله(4).

وفي أثناء مرض النَّبي قال لمن حوله: «مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس» فقالت عائشة – رضي الله عنها -: يا رسول الله! إنَّ أبا بكرٍ رجلٌ رقيقٌ، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه”(5).

وقال عمر بن الخطاب عن أوَّل مرَّةٍ سمع فيها القرآن: “لمَّا سمعت القرآن رقَّ له قلبي؛ فبكيت ودخلني الإسلام”(6).

وصلَّى عمر بن الخطاب صلاة الفجر فافتتح سورة يوسف فقرأها حتى إذا بلغ: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [سورة يوسف:84] بكى حتَّى سُمع نشيجه من وراء الصفوف(7).

وكان عبَّاد بن بشر يقوم بحراسة المسلمين بعد أن عسكروا في مكانٍ، وأخلدوا للنوم وهم في طريق عودتهم من غزوة ذات الرقاع، ولما وجد الجو هادئًا بدأ في الصلاة وقراءة القرآن، وفي أثناء ذلك لمحه أحد المشركين فأصابه بسهمٍ فلم يتحرك من مكانه، بل نزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بسهمٍ ثانٍ فنزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بثالثٍ فنزعه وركع وسجد، وسلَّم وأيقظ صاحبه عمَّار بن ياسر – رضي الله عنهما -، ولما سأله عمَّار: لماذا لم توقظني منذ أول سهمٍ؟ قال له: كنت في سورةٍ أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع عليَّ الرمي ركعت فآذنتك، وايم الله لولا أن أُضيِّعَ ثغرًا أمرني رسول الله بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها(8).

أيها الأحبة في الله: والقرآن لم يؤثِّر في الصحابة فحسب، بل أثَّر حتى في المشركين! فقد قال الوليد بن المغيرة بعد سماعه القرآن من النبي : “إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطِم ما تحته”(9).

بل وصل الأمر إلى سجودهم سجودًا جماعيًّا بسبب تأثرهم بالقرآن، فقد كان النبي يقرأ سورة النجم عند الكعبة، وكان يستمع لقراءته كثيرٌ من المشركين، فسكتوا وأنصتوا، وتأثَّروا حتى أنهم لم يتمالكوا أنفسهم، وخرُّوا سجدًا عندما سمعوا النبي يقرأ قول الله – تعالى -: فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا(10).

ولم يصل تأثير القرآن للإنس وفقط، بل تعدَّاه إلى الجنِّ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ ۝  قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ۝  يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأحقاف:29-31].

وأخبرنا سبحانه في كتابه الكريم أنَّ هذا القرآن لو أُنزل على جبلٍ لخشع وتصدَّع فقال عزّ من قائل: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ [سورة الحشر:21]، فهل قلوبنا أقسى من الجبال؟!

عباد الله: هلموا بنا نحيا مع القرآن، ونعمُر به حياتنا، وليكن هذا الشهر العظيم بدايةً لارتباطنا بالقرآن، ارتباط قراءةٍ وتدبُّرٍ وعملٍ؛ فإنه – والله – النور المبين الذي تضيء به دنيانا، وتصلح به آخرتنا – بإذن الله – وعونه وفضله.

اللهمَّ إنا عبادك بنو عبادك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدلٌ فينا قضاؤك، نسألك بكلِّ اسم هو لك، سمَّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا.

اللهمَّ بارك لنا في شهر رمضان، وأعنَّا فيه على الصيام والقيام، وتلاوة القرآن، ووفقنا فيه لكلِّ خيرٍ يا ذا الجلال والإكرام.

اللهمَّ إنَّك عفوٌ تحبُّ العفو فاعف عنَّا.


  1. أخرجه البخاري (3220)، ومسلم (2308).
  2. لطائف المعارف، لابن رجب (ص:315).
  3. مسند أحمد (23399).
  4. الدر المنثور، للسيوطي (7/222).
  5. أخرجه البخاري (678)، ومسلم (418).
  6. السيرة النبوية، لابن هشام، (347).
  7. فضائل القرآن، للقاسم بن سلام (ص:137).
  8. السيرة النبوية، لابن هشام (2/209).
  9. المستدرك للحاكم (3872).
  10. أخرجه البخاري (3972)، ومسلم (576).