الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضَّالون، لا يُسئل عما يفعل وهم يسألون، أحمده سبحانه حمد عبد نزّه ربه عما يقول الظالمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد من أطاعه، وانقاد لأمره بالأجر الكثير، والعطاء الجزيل، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله خير من صلى وصام، وقرأ القرآن بالليل والناس نيام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً .. أما بعد:
أيها المسلمون:
شهر رمضان شهر مبارك، جعله الله موسمًا للخيرات، وزادًا للتقوى والبركات، واختصه بنزول القرآن في ليلة هي خير من ألف شهر، وافترض علينا صيامه، وسن لنا رسول الله ﷺ قيامه، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة:185].
أيها المؤمنون: إن لربنا في دهرنا نفحات، تُذكّرنا كلما نسينا، وتنبّهنا كلما غفلنا، وتقوّينا على عزائم الخير كلما ضعفنا، فينبغي على المسلم أن يحرص على تنظيم وقته خصوصاً في شهر رمضان، وأن يكون شحيحًا بوقته أن يذهب سدى في هذا الموسم العظيم الكريم.
ومما يعين على حفظ الأوقات واغتنامها في العبادة في الشهر الفضيل: أن يحرص رب كل بيت على شراء الأغراض التي يحتاجها أهل بيته قبل بداية الشهر، وكذلك يحرص على شراء الأغراض اليومية في الأوقات التي لا يكون فيها زحام في الأسواق، وأن ينظم الزيارات الشخصية والعائلية؛ حتى لا يضيع على نفسه فرصًا كبيرة للازدياد من الخير، والعمل الصالح.
ولقد كان نبينا ﷺ يخص هذا الشهر من العبادة بما لا يخص غيره من الشهور؛ وذلك لعلمه بما لهذه الأيام والليالي من فضيلة خصها الله بها، وميزها عن سائر أيام العام، ولربما واصل الصيام يومين أو ثلاثة؛ ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة، وكان ينهى أصحابه عن الوصال، فيقولون له: إنك تواصل، فيقول: «إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني»(1).
أيها الأحبة الكرام: من أراد أن يخرج من هذا الشهر مغفوراً له فعليه أن يغتنم فرصة شهر رمضان بصلاة التراويح، وأن يصبّر نفسه مع الإمام حتى ينصرف كي يكتب له قيام ليلةٍ كاملةٍ، ففي الحديث الصحيح «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»(2) ويرحم الله سلفنا الصالح، لقد كان القارئ منهم يقرأ بالمئين فكانوا يعتمدون على العصي من طول القيام وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر.
أما حالهم في النفقة والجود والكرم في رمضان، فقد كانوا مقتدين برسول الله ﷺ الذي كان يكثر فيه من الصدقة، فقد «كان النبي ﷺ أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي ﷺ القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة»(3) ومن هنا فإن من شأن المسلم في هذا الشهر، ومن أفضل ما يتقرّب به لربه: أن يعين المساكين، وأن ينفق على الفقراء والمحتاجين، وأن يبحث عن الأرامل والمنكوبين، وأن يمسح دمعتهم، ويرسم البسمة على وجوههم، وأن يسد حاجتهم.
يقول الشافعي – رحمه الله -: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء به، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم(4).
أيها الأخوة الأعزاء: إن شهر رمضان من أفضل مواسم الخير التي يمكن للمؤمن التزود فيها من الأجور، ومنها: تفطير الصائمين، فينبغي أن يكون من طعامنا خلال الشهر نصيب لجيراننا وأصدقائنا وبخاصة الفقراء، وفي الحديث الصحيح: «من فطّر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا»(5).
ولقد كان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم منهم: عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – وداود الطائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، يأتي إلى المسجد فيصلي، ثم يذهب إلى بيته ومعه مجموعة من المساكين، فإذا منعهم أهله عنه لم يتعش تلك الليلة، وكان حماد بن أبي سليمان يفطّر في شهر رمضان خمس مائة إنسان.
فرضي الله عنهم ورحمهم، وأعاننا على الاقتداء بصالح أحوالهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [سورة الإسراء:19]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [سورة الأحزاب:21] والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام، وسلم تسليماً كثيراً، أخرجنا الله برسالته من الظلمات إلى النور، فلله الحمد في الآخرة والأولى.. أما بعد:
أيها المسلمون: إذا كان النبي ﷺ يخص شهر رمضان من العبادة بما لا يخص غيره من الشهور؛ فإنه كان يخص العشر الأواخر من رمضان بمزيد من الاهتمام والاجتهاد في العبادة؛ وذلك لفضلها واشتمالها على ليلة القدر، فكان يتحراها ويأمر بتحريها في العشر الأواخر من رمضان، وربما كان اعتكافه لهذا الغرض فكان عليه الصلاة والسلام يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله – تعالى –(6) ليجتمع قلبه على ربه، وليتفرغ لذكره ومناجاته.
ولقد ضرب – عليه الصلاة والسلام – القدوة الحسنة للزوج؛ كي يكون حريصاً على طاعة أهله لربهم – تبارك وتعالى – فكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل العشر شد مئزره(7)، وأيقظ أهله(8).
وكان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، ثم يقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [سورة طه:132](9).
أيها الأخوة الأجلاء: وبما أن شهر رمضان شهر القرآن؛ فلقد كان للسلف عناية خاصة بهذا الشهر المبارك من الإقبال على تلاوة القرآن، والاجتهاد في تلاوته، والإكثار من ختماته:
فهذا الزهري – رحمه الله – يفر في شهر رمضان من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن.
وهذا عثمان بن عفان يختم القرآن في شهر رمضان كل يوم مرة، وهذا الشافعي – رحمه الله – يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة.
وهذا البخاري – رحمه الله – يختم في نهار رمضان كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة.
وهذا سعيد بن جبير – رحمه الله – يختم القرآن كل ليلتين.
وهذا قتادة – رحمه الله – يختم القرآن كل ثلاث ليالٍ، فإذا جاء العشر الأواخر ختم كل ليلة.
يقول ابن رجب الحنبلي مبينًا أفعال هؤلاء السلف: وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها؛ فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتنامًا للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة وعليه يدل عمل غيرهم(10).
فحريٌ بنا – عباد الله – أن نعرف لشهر رمضان حقه، وأن نقدُره حق قدره، وأن تغتنم أيامه ولياليه، فلا تكون ساعة فيها عبادة إلا ونستغلها، وخاصة في العشر الأخيرة منه.
علينا أن نطوي صفحة الغفلة من حياتنا؛ من ضياعٍ للأوقات، وتسابقٍ للملذات، وأن نفتح صفحة جديدة بيضاء ناصعة، علينا أن نحسن الصيام، وأن نحسن القيام، وأن نصوم صوم المؤمنين المحتسبين، وأن نقوم قيام المؤمنين الصادقين، وكذلك علينا أن نطهر أنفسنا من الموبقات، وأن نحفظ ألسنتنا وآذاننا، وأعيننا وأيدينا، وأرجلنا من الآثام، وأن نتوب إلى الله توبةَ التائبين المنيبين، الراجعين الخائفين، فهذا هو أوان التوبة، وهذا هو موسم الإنابة.
أيها الأخوة الكرام: حريٌّ بنا أن نقتدي بنبينا ﷺ ، وأن نتأسى به في عبادته وحياته، فالعبد وإن لم ولن يبلغ مبلغه فليقارب وليسدد، وليعلم أن النجاة في اتباعه، والفلاح في السير على طريقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
اللهم رد المسلمين إلى دينك ردًّا جميلًا، واجمعهم على طاعتك، واحفظهم من كل سوء، وصحح أعمالهم، وتقبلها منهم، وتجاوز عنهم، ووفقهم لكل خير، واكشف عنهم كل سوء.
اللهم استعلمنا في طاعتك، وجنبنا معصيتك، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ووفقنا لقيام رمضان وصيامه إيمانًا واحتسابًا وتقبله منا، واجعلنا ممن وفق لقيام ليلة القدر، وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم، والغلو في الدين والبدع، برقم (7299) ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، برقم (1105).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، برقم (37) ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، برقم (759).
- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي ﷺ يكون في رمضان، برقم (1902).
- انظر: الحاوي الكبير، للماوردي (3/ 479).
- أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الصوم، باب ما جاء في فضل من فطر صائما، برقم (807) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (6412).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها، برقم (2026) ومسلم، كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، برقم (1172).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها، برقم (2026) ومسلم، كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، برقم (1172).
- أخرجه البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، برقم (2024).
- انظر: حياة الصحابة (4/193).
- انظر: لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، لابن رجب (171).