المداراة

المداراة

المداراة

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.. أما بعد:

فإن المدارة –وهي مدافعة الشر بالخير والكلام الطيب- من الأمور المعتبرة شرعاً بضوابط لا تخرج صاحبها إلى باب الكذب والنفاق، وهي عادة اجتماعية، وخصوصاً عند فئة الشباب، وفي الحياة العامة، فإذا كانت المداراة من أجل ملاطفة من حولك تحبباً إليهم ومودة، فلا بأس بها. أو كانت لكسب القلوب، أو لجلب مصلحة معتبرة شرعاً فلا بأس، فالرسول انبسط في وجه ذلك الرجل الذي قال فيه: (بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة) كما في حديث عائشة أن رجلاً استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما رآه قال: (بِئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة) فلما جلس، تطَلَّقَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل، قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إِليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا عائشة، متى عهدتني فحاشاً، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره)1 قال في الفتح: "وحاصله أنه حيث ذمه كان لقصد التعريف بحاله وحيث تلقاه بالبشر كان لتأليفه، أو لاتقاء شرّه"2 قال ابن بطال: "المدارة من أخلاق المؤمنين، وهى خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وسل السخيمة… وقال بعض العلماء: وقد ظن من لم يمعن النظر أن المدارة هي المداهنة، وذلك غلط، لأن المدارة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق بينهما بينٌ، وذلك أن المداهنة اشتق اسمها من الدهان، الذي يظهر على ظواهر الأشياء، ويستر بواطنها، وفسرها العلماء، فقالوا: المداهنة: هي أن يلقى الفاسق المظهر، فيؤالفه ويؤاكله، ويشاربه في أفعاله المنكرة، ويريه الرضا بها، ولا ينكرها عليه، ولو بقلبه، وهو أضعف الإيمان، فهذه المداهنة التي برأ الله -عز وجل- منها نبيه عليه السلام بقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9) سورة القلم، والمدارة هي الرفق بالجاهل الذي يستتر بالمعاصي، ولا يجاهر بالكبائر، والمعاطفة في رد أهل الباطل إلى مراد الله بلين ولطف، حتى يرجعوا عما هم عليه"3.

وإن انقلبت المداراة إلى مجاملة ومداهنة من أجل مصلحة ذاتية، ونفع دنيوي، وعلى حساب الدين، وإراقة ماء الوجه، والتزلف الزائد، فإنها عادة سيئة، وخلق رديء، وذلة لصاحبها، ونوع من النفاق والكذب والملق، والمؤمن ينبغي أن يكون صادقاً فيما يقول، ولا يكون ذا وجهين، كثير المديح والتزلف، على حساب دينه وخلقه وكرامته.   

والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن الإكثار من المدح الزائد في الوجه، فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: "أثنى رجل على رجل عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك) مراراً. ثم قال: (من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلاناً والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه)4 وعن مجاهد عن أبي معمر قال قام رجل يثني على أمير من الأمراء، فجعل المقداد يحثي عليه التراب، وقال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نحثي في وجوه المداحين التراب"5   

إن العالم يعيش اليوم في سيل من المجاملات، فانتشرت ثقافة المجاملة، والتزلف والنفاق، وأصبح الإنسان يتقلب ويتلون لاهثاً وراء مصلحته.   

إذن فليترك المسلم المجاملة المذمومة، والمخادعة القبيحة، و المراوغة الكاذبة، وليظهر بوجه واحد، وليقل القول السديد الذي أمره الله به، لأن من كثرت المجاملة منه يصغر أمام الآخرين، ويحتقره  الناس، فلنكن صادقين مع الناس، ومع أنفسنا، وألا نجامل على حساب قول الحق، ولتكن من صفات المؤمن المداراة والمدافعة بالأخف والأسهل، وألا يعطي الدنية في دينه. نسأل الله أن يرزقنا السداد في القول والعمل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 – صحيح البخاري (ج 18 / ص 457) وصحيح مسلم (ج 12 / ص 481 – 4693)

2 – فتح الباري لابن حجر (ج 20 / ص 213)

3 – ابن شرح ابن بطال – (ج 17 / ص 375)

4 – صحيح البخاري – (ج 9 / ص 150) وفي  (ج 19 / ص 2 – 5601) وفي (ج 19 / ص 138- 5696) وصحيح مسلم – (ج 14 / ص 282 – 5319)

5 – صحيح مسلم – (ج 14 / ص 285)