لمحة تاريخية على بيت الله الحرام
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد:
فإن الكلام عن تاريخ بيت الله الحرام إنما هو كلام عن تاريخ الإسلام؛ لأن هذا البيت مأوى كل الأفئدة، ومعقد اجتماع الأمة، ورمز كل شعيرة من شعائر الدين، إذا نظرت إليه اطمئن قلبك، وانشرح صدرك، واستعدت عزتك، وعلت همتك، وإذا رأيت مشاعره ومقدساته بعثت في قلبك معان عظيمة من وقوف النبي – صلى الله عليه وسلم – عندها، ومعاناة إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – عند بناءها، لما لها من مكانة في جبين التاريخ، وحتى نكون قد أكملنا ماتبقى من الإطلالة التاريخية على بيت الله الحرام فلا بد أن نتكلم عن الآتي:
أولاً: الحِجر:
وهو الحائط الواقع شمال الكعبة المشرفة على شكل نصف دائرة، أو هو: ما حواه الحائط المذكور، وهذا المراد عند إطلاقه.
وسمّي الحجر حجراً لأن قريشاً في بنائها تركت من أساس إبراهيم – عليه السلام -، وحجرت على الموضع ليعلم أنه من الكعبة1، وقد سبق أن قريشاً في إعادتها لبناء الكعبة قصرت بهم النفقة، فأخرجوا موضع الحجر من الكعبة، وعليه فإن الحجر من الكعبة؛ لكن ليس كل الحجر من الكعبة كما دلت عليه الروايات.
قال ابن الصلاح – رحمه الله -: "قد اضطربت فيه الروايات، ففي رواية الصحيحين ((الحجر من البيت))2 وروي: ستة أذرع، أو نحوها، وروي: خمسة أذرع، وروي قريباً من سبعة أذرع"، ثم قال: "وإذا اضطربت الروايات تعين الأخذ بأكثرها، والموجود في عصرنا هذا أكثر من سبعة أذرع بكثير، فقد بلغ تسعة أذرع"، وبما أن الحجر من البيت فإن أجر الصلاة فيه كأجر الصلاة في البيت؛ لما روى عبد الرزاق – رحمه الله -، والأزرقي – رحمه الله – بإسناد صحيح عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "ما أبالي أفي الحجر صليت أم في جوف الكعبة"3، ولم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن إسماعيل – عليه السلام – مدفون بالحجر، وقد أخطأ من جزم بذلك إذ لا دليل عليه، قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: "ليس في الدنيا قبر نبي يعرف؛ إلا قبر نبينا"4 اهـ.
ثانياً: مقام إبراهيم – عليه السلام -:
تعريفه: هو الحّجر الأثري الذي قام عليه إبراهيم – عليه السلام – عند بناء الكعبة المشرفة لما ارتفع البناء5.
والمقام أصله من الجنة لما روى الفاكهي بإسناد حسن عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: "المقام من جوهر الجنة"6.
صفته: هو حجر رخو من نوع حجر الماء، لونه بين البياض والسواد والصفرة، وهو مربع الشكل، وذرعه: ذراع (أي حوالي نصف متر).
قال ابن جرير – رحمه الله – عند قوله – تعالى -: فيه آيات بينات مقام إبراهيم قال: "فيه علامات من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم، منهن أثر قدم خليله إبراهيم في الحجر الذي قام عليه"7.
وقال وصي الله عباس8: "روى ابن وهب في موطئه بإسناد صحيح عن أنس – رضي الله عنه – قال: رأيت المقام فيه أثر أصابع إبراهيم، وأخمص قدميه؛ غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم"9 اهـ، وقال ابن حجر – رحمه الله -: "وكان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر – رضي الله عنه – إلى المكان الذي هو فيه الآن…"10اهـ. وفعل ذلك عمر – رضي الله عنه – دفعاً للتضييق على الطائفين11، ويشرع بعد الطواف صلاة ركعتين خلف المقام قال – تعالى –واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى12، وكان ابن عمر – رضي الله عنهما – إذا أراد أن يصلي خلف المقام جعل بينه وبين المقام صفاً أو صفين أو رجلا أو رجلين، ولا يشرع مسح المقام فضلاً عن تقبيله، وكان ابن الزبير – رضي الله عنهما – ينهى عن ذلك، ويقول: إنكم لم تؤمروا بالمسح، وإنما أمرتم بالصلاة.
ثالثاً: الميزاب:
هو مصب ماء المطر الذي على سطح الكعبة، روى الأزرقي – رحمه الله – بإسناد صحيح عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: "صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار، قيل لابن عباس: وما مصلى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب، قيل: وما شراب الأبرار؟ قال: ماء زمزم13. فتفسير ابن عباس لشراب الأبرار بماء زمزم فيه رد ما يفعله بعض العوام – هداهم الله – من حرصهم على شرب ماء المطر الذي ينزل من الميزاب.
رابعاً: الملتزم:
وهو مكان الالتزام من الكعبة فيما بين الحجر الأسود وباب الكعبة المشرفة.
قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: "هذا الملتزم بين الركن والباب"14 وذرعه كما قال الأزرقي – رحمه الله -: أربعة أذرع – أي حوالي مترين-15.
والالتزام: بأن يضع صدره ووجهه، وذراعيه وكفيه بين الركن والباب، ويسن عند الالتزام الدعاء والتضرع إلى الله – تعالى -، وقد فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه من بعده16، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "وإن أحب أن يأتي الملتزم وهو ما بين الحجر الأسود والباب فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفيه ويدعو ويسأل الله – تعالى- حاجته فعل ذلك… ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسناً"17.
خامساً: زمزم:
تعريفه: هو علم للبئر التي تقع جنوبي مقام إبراهيم – عليه السلام – على بعد 18 متراً منه في المسجد الحرام، واشتقاقه من الزمزمة وهو الصوت مطلقاً، أو الصوت البعيد يُسمع له دوي، قال: ابن قتيبة – رحمه الله -: "ولا أراهم قالوا زمزم إلا لصوت الماء حين ظهر" اهـ.
تاريخها:
كانت مكة قبل هجرة الخليل إبراهيم – عليه السلام – إليها خالية من الماء والزرع، ولما أراد الله أن تكون مركزاً لعبادته أمر إبراهيم – عليه السلام – أن يهاجر بابنه الرضيع إسماعيل وزوجه هاجر إلى هناك، ففعل وأسكنهما في هذا الوادي، ثم ذهب إبراهيم عنهما وترك لهما بعض الزاد والماء، فلما نفد الماء واشتد العطش بإسماعيل جرت أمه هاجر بحثاً عن الماء، ولم تجد شيئاً، فأرسل الله جبريل وحفر عن موضع بئر زمزم18، قال الفاسي: "ولم يزل ماء زمزم طاهراً ينتفع به سكان مكة إلى أن استخفت جرهم – وهي القبيلة التي كانت تسكن مكة – بحرمة الكعبة والحرم فدرس موضعه، ومرت عليه السنون عصراً بعد عصر إلى أن صار لا يعرف"19، وبقي على حاله تلك إلى أن جاء عصر عبدالمطلب جد النبي – صلى الله عليه وسلم -، فأراه الله مكانه في المنام، وأمره آمرٌ في منامه أن يحفره، فحفره وانفجر الماء من جديد20.
من فضائل زمزم:
أن جبريل – عليه السلام – غسل به صدر النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد شقه21، ولذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ماء زمزم لما شرب له))22، وقال: ((إنها مباركة، وهي طعام طعم، وشفاء سقم))23، وقال: ((خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم، وشفاء من السقم))24.
وقد سمن أبو ذر- رضي الله عنه – من شرب زمزم لما بقي شهراً بالمسجد الحرام ليس له طعام إلا هو25، وروى الفاكهي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – بإسناد صحيح أنه قال: "كنا نسميها شباعة، نعم العون على العيال"26، وهي شراب الأبرار كما ثبت عن ابن عباس – رضي الله عنهما -.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، ويسر أمورنا، واهدنا إلى الصراط المستقيم.
والحمد لله رب العالمين.
1– انظر "معجم البلدان" لياقوت الحموي (2/221).
2– رواه البخاري برقم (1507) ومسلم برقم (1333).
3– مصنف عبد الرزاق (5/130)، و"أخبار مكة" للأزرقي (1/312).
4– مجموع الفتاوى (27/444).
5– انظر معجم البلدان (5/164).
6 – (1/449)
7 – تفسير الطبري (4/11).
8 – في كتابه "المسجد الحرام تاريخه وأحكامه" ص(448).
9 – انظر تفسير ابن كثير (1/171) وفتح الباري(8/169).
10 – في "فتح الباري" (8/169).
11 – وانظر خبر عمر هذا في مصنف عبد الرزاق (5/48).
12 – وانظر فتح الباري (8/168).
13 – أخبار مكة للازرقي (2/53).
14 – رواه الإمام عبد الرزاق في مصنفه (5/76) بإسناد صحيح..
15 -أخبار مكة (1/350).
16– انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للالباني (2138).
17– (مجموع الفتاوى 26/142).
18– انظر القصة بتمامها في فتح الباري (6/396).
19– (شفاء الغرام 1/247).
20– انظر دلائل النبوة للبيهقي (1/78)، وأخبار مكة للأزرقي (2/46): فيهما قصة عبد المطلب هذه بطولها عن علي – رضي الله عنه – بإسناد لا بأس به".
21– (انظر صحيح البخاري 3/492 مع فتح الباري).
22 – رواه احمد برقم (14578).
23 – رواه مسلم برقم (2473).
24 – رواه الطبراني برقم (11167) وعبد الرزاق برقم (9119).
25– (انظر صحيح مسلم رقم 1919).
26– أخبار مكة (2/36).