ولا تقف ما ليس لك به علم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.. أما بعد:
الناظر إلى الأمة هذه الأيام يرى تخبطاً في الآراء، وتعارضاً في الأقوال، وتصادماً في الفتوى، وليس ذلك في الأمور التي يسوغ فيها الخلاف؛ بل فيما هو قطعي، أو مجمعٌ عليه عند الصحابة أو كبار الأئمة، وسبب ذلك معلوم عند الكثير وهو القول على الله بغير علم، فهذا يفتي، وهذا يرجح، والآخر يرد، وغيره يتأول!!
لن أقف اليوم مع كل من تكلم بلا علم؛ لأنهم كثر، ولن يستطيع أحدٌ حصرهم، لكنني أحببت أن أقف مع شريحة من المجتمع قد اشرأبت أعناق الناس إليهم، أنصت الناس إلى قراءتهم، وجعلوهم قدوات يقتدون بفعالهم، ويقتفون آثارهم، يأتمون بهم عند الوقوف أمام ربهم، إنهم أئمة المساجد!!
لا يعني ذلك أنهم ليسوا على علم، أو أنهم يتكلمون بما لا يعلمون، بل فيهم العالم، والفقيه، والمحدث، لكن مع انشغال بعض الأئمة بالدعوة، أو باجتلاب الرزق، أو غير ذلك؛ قد لا يتفرغ لطلب العلم، فيأتي بما هو مطلوب من العلم الضروري – الذي يحتاجه الإمام – من أحكام الطهارة والصلاة والإمامة، وقد يأتم بعض الناس مع عدم التأهيل؛ لعدم وجود الكادر، أو كثرة المساجد وبخاصة في الأماكن النائية.
ومن المشاهد أنَّ كثيراً من العوام قد يطرح بعض الأسئلة الشرعية على إمام مسجده، والإمام لا يعرف الجواب، فيتحرج من عدم الجواب؛ فيفتي بغير علم!!
لذلك كان لابد من الوقوف على هذه المشكلة، وبيان الحق فيها يقول الله – تعالى-: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ1، فقد جعل الله – سبحانه وتعالى – التكلم بلا علم بعد الشرك مباشرة؛ وهذا دليل على خطورته، فهو تحليل حرام، أو تحريم حلال؛ يقول صاحب تفسير الوسيط: "أى: حرم عليكم أن تقولوا قولاً يتعلق بالعبادات، أو المحللات أو المحرمات، أو غيرها بدون علم منكم بصحة ما تقولون، وبغير بينة على صدق ما تدعون"2، وينقل كلاماً مفيداً في هذا الباب من مجلة المنار يقول: "ومن تأمل هذه الآية حق التأمل فإنه يتجنب أن يحرم على عباد الله شيئاً، ويوجب عليهم شيئاً فى دينهم بغير نصٍ صريحٍ عن الله ورسوله، بل يجتنب – أيضاً – أن يقول: هذا مندوب أو مكروه فى الدين بغير دليل واضح من النصوص، وما أكثر الغافلين عن هذا، المتجرئين على التشريع"3، ليس من الضروري أننا إذا سُئِلْنَا أن نجيب، فقد نقع في الإثم ونحن لا نشعر يقول الله – تعالى-: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ4، يقول الشنقيطي – رحمه الله تعالى – عند هذه الآية: "كان السّلف الصالح – رضي الله عنهم – يتورعون عن قولهم: هذا حلال، وهذا حرام؛ خوفاً من هذه الآيات،… إلى أن قال: وقال ابن وهب: قال مالك: "لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا: إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا" انتهى"5، فليتورع إمام المسجد من القول بلا علم، ولا يتحرج إن سُئلَ أن يقول: الله أعلم، وهذا ما جاء السلف به، ونقل إلينا عنهم، يقول ابن مفلح – رحمه الله تعالى – في آدابه: "فصل في قول العالم لا أدري، واتقاء التهجم على الفتوى – ثم ينقل بعض الأقوال -: قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله، وكذا قال علي بن حسين، وقال مالك: كان يقال إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله، وقال أيضاً: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إمام المسلمين وسيد العالمين، يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء، وقال الشعبي: لا أدري نصف العلم، وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن العالم يظنونه عنده علم كل شيء! فقال: قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون"6، وبوب النووي – رحمه الله – في رياض الصالحين: "باب النهي عن التكلف وهو فعل وقول ما لا مصلحة فيه بمشقة قال الله – تعالى -: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ7، وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: "نهينا عن التكلف"8، وعن مسروق قال: دخلنا على عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – فقال: يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم، قال الله – تعالى- لنبيه – صلى الله عليه وسلم -: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)9"10، ويقول ابن مسعود – رضي الله عنه -: "إن من العلم أن يقول الذي لا يعلم: الله أعلم"11، قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: خمس احفظوهن.. ولا يستحي عالم إن لم يعلم أن يقول: الله أعلم"12، وجاء عنه – أيضاً – أنه خرج عليهم وهو يقول: ما أبردها على الكبد، فقيل له: وما ذلك؟ قال: أن تقول للشيء لا تعلمه: الله أعلم"13، وسئل سعيد بن جبير – رحمه الله تعالى – عن شيء فقال: لا أعلم، ثم قال: ويل للذي يقول لما لا يعلم: إني أعلم"14، وعن القاسم بن محمد قال: يا أهل العراق إنا والله لا نعلم كثيراً مما تسألونا عنه، ولئن يعيش المرء جاهلاً لا يعلم ما افترض عليه، خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم"15، وعن ابن عون قال: "كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فسأله عن شيء فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني رفعت إليك لا أعرف غيرك، فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي؛ الزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم، فقال القاسم: والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به"16، وعبد الرحمن بن مهدي يقول: "كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل؛ فقال له: يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر، حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها، قال: فسل، فسأله الرجل عن المسألة؛ فقال: لا أحسنها، قال: فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم، قال: تقول لهم قال مالك: لا أحسن"17، نكتفي بهذا، ونسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
1 سورة الأعراف (33).
2 التفسير الوسيط (الأعراف:33).
3 المصدر السابق.
4 سورة النحل(116).
5 أضواء البيان، النحل (116).
6 الآداب الشرعية (2/ 62).
7 سورة ص(86).
8 رواه البخاري (6749).
9 رواه البخاري (4435).
10 رياض الصالحين (1/305).
11 كتاب العلم(1/15).
12 جامع بيان العلم وفضله (1/90).
13 جامع بيان العلم وفضله (2/ 53).
14 نفس المصدر السابق.
15 نفس المصدر السابق.
16 نفس المصدر السابق.
17 نفس المصدر السابق.