السفاهة

السفاهـة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله حامي حمى الدين، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور المبين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن السفه نقيض الحلم، وهو سرعة الغضب، والطيش من الأمور اليسيرة، والمسارعة للبطش في العقوبة، والسب الفاحش، ومما لا شك فيه أن أساس هذا كله هو خفة العقل ونقصانه. والسفه يكون في الأمور الدينية، والدنيوية، أما كونه في الأمور الدينية والأخروية فقد دل عليه قول الله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (سورة الجن:4)، وقوله – عز وجل -: سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (سورة البقرة:142).

والمراد بالسفهاء هنا هم الكفار، والمنافقون، واليهود؛ أما الكفار فقالوا لما حُولت القبلة: رجع محمد إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا، فإنه علم أنَّا على الحق, وأما أهل النفاق فقالوا: إن كان أولاً على الحق فالذي انتقل إليه باطل، وكذلك العكس، وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء، ولو كان نبيـًا لما خالف.

ولا شك أن هذه المقولات دالة على سفاهة أصحابها، وقلة عقولهم؛ إذ غفلوا عن تصريف الله لأمور عباده كيف يشاء، وأن له المشرق والمغرب، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

فالسفيه في هذا الجانب هو إنسانٌ رديء الفهم، سريع الذنب، خدعه شيطانه فجعله أسير الطغيان، دائم العصيان، أعاذنا الله من حاله.

ولهذا بيَّن الله تعالى سفاهة هؤلاء حين دعوا إلى الإيمان فقالوا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ (سورة البقرة:13)، إذ لو كانوا أصحاب عقل راجح، ورأي سديد؛ لعلموا أن ما دُعوا إليه هو الحق، أما السفاهة في الأمور الدنيوية فهي قلة التدبير، وفساد الرأي، والعمل بخلاف مقتضى العقل، ومن ذلك إنفاق السفيه ماله فيما لا ينبغي من وجوه التبذير، وعجزه عن إصلاحه والتصرف فيه بالتدبير.

ولهذا نهى الله تعالى عن إعطاء هذا الصنف الأموال يعبث بها كيف شاء، ويبددها على غير الوجه المقبول شرعـًا وعقلاً، قال تعالى: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (سورة النساء:5).

ويوم يتصدر السفهاء، ويتكلمون باسم الأمة، فقد أتت على الناس الأزمنة التي حذر الرسول  منها: إنها ستأتي على الناس سنون خدَّاعة، يُصَدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرُّوبيضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة1.

كما حذر النبي  من إمرة السفهاء فعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: إن النبي  قال لكعب بن عُجْرَة: أعاذك الله من إمارة السفهاء قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي لا يقتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم؛ فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردوا عليَّ حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم؛ فأولئك مني وأنا منهم، وسيردوا عليَّ حوضي2.

إخواني:

إن أفضل السُّبل مع السفيه هو اجتنابه، وعدم مخالطته أصلاً، ومن ابتلي بأحدهم فليحلم عليه قال عمير بن خماشة يوصي بنيه: “بَنِيَّ إياكم ومجالسة السفهاء؛ فإن مجالستهم داء، من يحلم عن السفيه يُسَر، ومن يُجبْه يندمْ، ومن لا يرضى بالقليل مما يأتي به السفيه يرضى بالكثير”.

وقال الشافعي – رحمه الله تعالى -:

يخاطبني السفيه بكل قبْحٍ فأكره أن أكون له مجيباً
يَزيد سفاهة فأزيد حِلْماً كَعودٍ زاده الإحراقُ طِيبا3

هكذا العقلاء والحكماء يخالفون دوماً سُبل السفهاء، وهذه بدهيةٌ مسلَّمة لمن تتبع السير والوقائع التاريخية والحاضرة، وقد قيل لأحد العقلاء: ممن تعلمت الحكمة؟ فقال: أرى أفعال السفهاء فأتجنبها، وقيل لآخر: ممن تعلمت الأدب؟ فقال: من قليل الأدب.

ويبالغُ بعض الناس حتى يكره سلوكَ طريقٍ يستخدمه فئامٌ تأبى نفسه مشاركتهم في شأن، فالكريمُ ليس كالدنيء؛ والمتأني لا يأنس بالمتهور، والناظرُ إلى بعض القضايا التي يتقاطعُ فيها الساسةُ مع الفنانين – على اختلاف فنونهم – يستغربُ من هذا التوافق، ووقعِ الحافرِ على الحافر، ولو ظنَّ إنسانٌ أنَّ مخرجَ التصريحاتِ والقرارات في عالم السياسة هو ذاته منبع المسلسلاتِ والأفلام والرسومات في دنيا الفن لما أغربَ في ظنه.

وإذا حصرنا القضايا التي يتماثلُ طرحُ الفريقين حولها نرى حقائقَ جديرةً بالتأمل: فمن استهزاءٍ بدين الله، وسخريةٍ برجالاتِ الإسلام، إلى هجومٍ لا هوادةَ فيه على التاريخ الإسلامي، والجهاد، وأحكام الفقه، والدعوات الإصلاحية؛ انتهاءً بهدم الميزان الأخلاقي الدقيق، والاعتداءِ الآثمِ على الفضائل وكريم السجايا، ولو قصرنا الحديث على الحجاب الشرعي للمرأة المسلمة لاستبان الأمر لنا، واتضح خيرَ بيانٍ وأوضحه. فالحجاب صرع الديمقراطيةَ الغربية في مهدها، ومرغها في الوحل إبَّان قضيته الكبرى في فرنسا بلد الحرية والنور – كما يقولون -. والحجاب أقضَّ مضاجع القادة الغربيين حتى هاجمه رئيسا وزراء بريطانيا وإيطاليا وأكَّد الهجوم وزير الخارجية البريطاني غير مرة؛ وشغلت قضية الحجاب الإعلامَ الاسترالي زمناً لا يُستهان به، وكانت ولا زالت مسائل المرأة من مآخذِ الأمريكان الغزاة على الحكومات العربية والإسلامية. وفي عالمنا الإسلامي يتكرر بين الفينة والأخرى الهجوم من بعضهم على الحجاب ومظاهرِ العفة بإدعاءاتٍ باطلةٍ، ودعاوى سامجةٍ، كوصمها بالتخلف، أو أنها جاءت من بلدان متخلفة في إشارة دنيئة إلى بلاد كريمة مقدسة لطالما استفاد هو وزمرته منها؛ ولا ينفع مع اللئيم إحسان.

وإذا غادرنا عالم السياسة للمهرجين من ممثلين وغيرهم وجدنا أن أغلب المواد الفنية تخدش الحياء والفضيلة، وتهزأ بالحجاب والحشمة إما تصريحاً أو ضمناً بدعوتها للسفور والفجور والآثام.

ولا أعتقد أنَّ ثمَّ مادة فنية – أغنية، أو مسلسل، أو فيلم، أو مجلة – تكاد أن تخلو من مثل هذه الدعوات التي يعلنها أناسٌ لا يشرفُ بهم عَالمنُا، وليسوا في الناس بشيء وإن بدا أنهم شيءٌ4.

نسأل الله السلامة والعافية، وحسن الخلق والعمل.


1 رواه ابن ماجة برقم (4026) (ج 12 / ص 44) وأحمد برقم (7571) (ج 16 / ص 112), واللفظ له، ولفظ ابن ماجة قوله: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة وصححه الألباني برقم (3650) في صحيح الجامع.

2 رواه أحمد (13919) (ج 28 / ص 468) وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2242): “صحيح لغيره”.

3 من موقع المختار الإسلامي.

4 من موقع المختار الإسلامي.