نظام الحفظ للقرآن الكريم
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى، ورضي الله عمن بهدي رسول الله ﷺ وأصحابه اقتفى، أما بعد:
الحمد لله أن انتشرت الصحوة الإسلامية المباركة في عصرنا، وأصبحت نتائجها ظاهرة لكل أحد، ولعل من بعض ثمارها المباركة عودة كثير من شباب الأمة إلى القرآن الكريم قراءة وحفظاً، ونظراً لسلوك كثير من أولئك مسلكاً غير منهجي أثناء مرحلة الحفظ مما يؤدي إلى سوء الحفظ سواء أكان ذلك من حيث النطق، أو الاستيعاب لكامل ما يحفظ، أو استقرار الحفظ وثباته في الذهن، بالإضافة إلى عدم مواصلة الكثير منهم للحفظ والتوقف بعد ابتداء المشوار، أو حتى عدم الابتداء من الأصل مع وجود رغبة صادقة، وحرص أكيد للتشرف بحفظ القرآن الكريم.
ولعل هذه السطور أن تفيد الراغبين في حفظ كتاب الله الكريم، وسيتم تقسيم الموضوع كالتالي:
أولاً: ما ينبغي فعله لمن أراد حفظ القرآن الكريم قبل أن يحفظ.
ثانياً: خطوات عملية مقترحة لحفظ القرآن الكريم.
وثالثاً: ما يفعله الحافظ بعد أن يحفظ.
* ما ينبغي فعله لمن أراد حفظ القرآن الكريم قبل أن يحفظ:
1- الإخلاص لله تعالى: إذ لا يخفى على أحد أن الإخلاص وإرادة وجه الله – تعالى – شرط لصحة العمل وقبوله إن كان عبادياً محضاً كالصلاة، والصيام، والطواف … الخ، كما أنه شرط للثواب ونيل الأجر في الأمور المباحة كالأكل، والشرب، وحسن المعاشرة للناس …الخ.
وبما أن قراءة القرآن وحفظه من الأمور العبادية المحضة فإنها لا تقبل عند الله – تعالى – إلا بالإخلاص، وهي داخلة في مثل قوله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (سورة الكهف:110).
2- استشعار عظمة القرآن الكريم، ومعرفة منزلته: ومن الأمور التي تحقق ذلك:
أ- تذكر أن القرآن كلام الله – تعالى – كما قال تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ (سورة التوبة:6)، وعظمته مأخوذة من عظمة الله، ولا أعظم من الله، وبالتالي فلا أعظم ولا أقدس من كلامه سبحانه.
ب- إدراك الأمر الذى نزل من أجله القرآن، وهو هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (سورة البقرة:2) وقال : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (سورة البقرة:185)، ومن عظمة القرآن عظمة الشهر الذي أنزل فيه القرآن فهو أفضل الشهور، وعظمة الليلة التي أنزل فيها القرآن فهي خير الليالي، وعظمة الرسول الذي أنزل عليه القرآن فهو إمام الأنبياء والمرسلين، وسيد ولد آدم ولا فخر…الخ، ويكفي هذا في بيان مقدار عظمته وجلاله.
3- إدراك فضل أهل القرآن، وعظم ثوابهم؛ فقد جاء بيان ذلك في كثير من النصوص ومنها: ما رواه عمر أن النبي ﷺ قال: إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ1 وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ2، وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ قَالَ: أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٌ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٌ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ3، وعن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ4.
4- معرفة أن الشارع قد حث على قراءة القرآن، والاستماع إليه في نصوص منها:
أ- في القراءة: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (سورة فاطر:29-30).
ب- في الاستماع: قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (سورة الأعراف:204) قال الليث بن سعد – رحمه الله -: “يقال ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن لقوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ولعلَّ من الله واجبة”5.
5- إدراك من أراد الحفظ الهدف من قراءة القرآن وحفظه: ويمكن أن يحصل ذلك عن طريق استشعار الأمور التالية:
أ- ما يقع من تحصيل الأجور العظيمة الواردة في النصوص، ومنها ما سبق بيانه.
ب- قراءة لتنفيذ الأوامر، وتطبيق التعاليم الواردة في الآيات.
ج- قراءة التصورات الصحيحة الصائبة حيث أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد لتصوراتنا؛ لقوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ (سورة النحل:89).
6- التنبه إلى سهولة القرآن لمن أراد حفظه: لقوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (سورة القمر:17) قال القرطبي – رحمه الله تعالى – عن هذه الآية: “أي سهلناه للحفظ، وأعنَّا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟”6.
7- ضرورة وجود العزيمة الصادقة: وذلك عند الابتداء في الحفظ، والاستمرار على ذلك، إذ بدونها يخور العبد، ويتهاون ولا يتجاوز الأمر كونه مجرد أمنية وحلم يقظة، ويمكن أن يوجد الإنسان هذه العزيمة الصادقة بمعرفته لعظمة القرآن، ومكانة أهله، والفضل الجزيل لقارئه ومستمعه إذ أن النصوص الواردة في ذلك تحث المسلم، وتدفعه بشدة إلى تكوين رغبة جادة في قرارة نفسه على الحفظ والمواصلة.
8- التقليل من المشاغل والاكتفاء بالحفظ وبذل الجهد في ذلك قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (سورة العنكبوت:69) ومعروف أن من سار على الدرب وصل، ومن جد وجد، ومن زرع حصد، ومما يعرفه الناس عن النملة أنها تحاول الرقي إلى مكان مرتفع، وقد تفشل في الوصول إلى غايتها وتسقط، ولكنها لا تكل أو تمل، وتبذل جهداً مضاعفاً إلى أن يتكلل جهدها بالنجاح، وهذا هو ما ينبغي فعله لمن أراد حفظ القرآن.
9- تفريغ وقت يومي للحفظ: سواء أكان ذلك بعد الفجر، أو بعد العصر، أو بعد المغرب؛كل حسب ما يناسبه، ويفضل أن يكون مكان الحفظ هو المسجد أولى لقوله ﷺ في الحديث السابق: أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ ومعلوم أن الجو في المسجد مهيأ لهذا الأمر، وغيره ليس مثله، وكونه مع مجموعة أفضل لأن الجماعة عنصر مساعد ومشجع، والإنسان قد يصاب بكسل وفتور فتدفعه الجماعة إلى المواصلة، ولذا قيل: “الصاحب ساحب”.
10- اختيار شيخ مجيد للتلقي عليه: ولذا قرر أهل العلم أنه لا يصح التعويل في قراءة القرآن الكريم على المصاحف وحدها بل لابد من التلقي على حافظ متقن متلق عن شيخ، لكون قراءة القرآن مبناها على التلقي والسماع، وقد جاء عن ابن مسعود أنه كان يقول: “والله لقد أخذت من فيِّ رسول الله بضعاً وسبعين سورة”، وذكر ابن حجر في الفتح بيان كيفية أخذ عبد الله لبقية القرآن فقال: “زاد عاصم عن بدر عن عبد الله: “وأخذت بقية القرآن عن أصحابه”، ولأهمية التلقي في تعلم القرآن نجد أن بعض الصحابة كانوا يوجهون طلابهم إلى ضرورة التلقي عن المتلقي.
11- اختيار مصحف معين في الحفظ حتى ترسخ مواضع الآيات في الذهن، ولا يكون هناك تشتت.
12- الحرص على الابتداء في الحفظ من آخر المصحف، وبخاصة صغير السن، أو ضعيف العزيمة، حتى يشعر أنه قد أنجز شيئاً في فترة وجيزة، حيث أن السور أكثر عدداً، وأقل صعوبة، ولديه خلفية عنها عن طريق مقررات القرآن في المدارس النظامية.
13- دعاء الله تعالى بالتوفيق والتمكين من الحفظ، واللجوء إليه في ذلك؛ لأن حفظ القرآن الكريم منَّة من الله وهبة.
*خطوات عملية مقترحة لحفظ القرآن الكريم:
1- تحديد مقدار معين لحفظه في جلسة واحدة في حدود طاقة القارئ، وينبغي له أن لا يزيد كمية المقدار كثيراً في أيام حماسه وبخاصة في بداية الحفظ حتى لا يكل، أو يمل، أو يصاب بالإحباط حين لا يستطيع المحافظة على ذلك المقدار، وبالتالي يؤدي ذلك إلى تركه الحفظ بالكلية، بل عليه أن يربي نفسه على المرونة في تحديد المقدار جاعلاً نصب عينيه أن أهم قضية هي الاستمرار اليومي في الحفظ لا غير.
2- قراءة المقدار المعين على الشيخ المختار من المصحف قبل مباشرة الحفظ، وتلزم هذه الخطوة إذا كان القارئ لا يجيد قراءة الرسم العثماني.
3- قراءة القارئ المقدار المحدد للحفظ من المصحف بينه وبين نفسه لإصلاح النطق في الكلمات التي لم يُجِدْ قراءتها.
4- أن يحفظ القارئ المقطع آية آية، ويقوم بربط الآية الثانية بالتي تليها، وإذا كانت الآية الواحدة تقل عن سطر فآيتين آيتين بحيث لا يتم الزيادة على سطرين أو ثلاثة في المرة الواحدة.
5- أن يرفع الصوت بتوسط أثناء الحفظ؛ لأن خفض الصوت يكسل القارئ، ورفعه جداً يتعبه ويؤذي من حوله؛ هذا في الأصل، أما لو كان خاشعاً خالي الذهن، وخفض صوته؛ فلا بأس، لكن لا بد من القراءة باللسان، أما إمرار العين بدون تحريك اللسان فلا.
6- نطق الآيات أثناء الحفظ بترتيل وتمهل، والحرص على عدم إغفال أحكام التجويد أثناء القراءة امتثالاً لقوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (سورة المزمل:4) واهتداء بالنبي ﷺ في تركه تحريك لسانه استعجالاً به بعد نزول قوله تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (سورة القيامة:16) ولأن هذا هو هدي رسول الله ﷺ في تعليمه القرآن لأصحابه قال الله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (سورة الإسراء:106) وقد سئل أنس بن مالك: كيف كانت قراءة النبي ﷺ فقال: “كانت مدّاً ثم قرأ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سورة الفاتحة:1) يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم، وهذا الأمر كان ديدن كبار الصحابة، ولذا قال ابن عباس – رضي الله عنهما – راداً على أبي حجر حين قال له: إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث: «لَأَنْ أقرأ البقرة في ليلة فأدبرها، وأرتلها؛ أحب إليَّ من أن أقرأ كما تقول”، ولا شك أن الترتيل أثناء الحفظ يعين على تدبر الآيات، والتفكر في معانيها مما يعني جمع القارئ بين حفظ الآيات والفهم مبدئياً لمعناها، وهو مما يعمق الحفظ، ويقويه أيما تقوية.
7- أن يُسمِّع على نفسه المقدار المعين حفظه بعد إنهائه له.
8- أن يقوم بقراءة المقدار المحفوظ من المصحف بعد تسميعه على نفسه للتأكد من سلامة الحفظ، وعدم تجاوزه لبعض الآيات أو الكلمات، أو الخطأ في الشكل.
9- أن يقوم بتسميع ما حفظ على شيخه المختار ولا بد من ذلك.
10- يفضل ربط المقدار المحفوظ من سورة ما قسمت إلى مقاطع بما حفظ من أول السورة يومياً ليتم الربط بين المقاطع المحفوظة، وهذا أمر لا دخل له في برنامج الحافظ للمراجعة.
* ما يفعله الحافظ بعد أن يحفظ:
1- الخوف من الوقوع في الرياء: والرياء في موضوعنا: طلب الحافظ للجاه والمنزلة في نفوس الخلق بإظهاره لهم إكماله لحفظ القرآن، أو جودة حفظه وحسن أدائه، وهو ضرب من الإشراك، ولذا قال رسول الله ﷺ: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً7. والمرائي بالقرآن معرض نفسه للعقوبة الشديدة الواردة في حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: أَوَّلُ النَّاسِ يُقْضَى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ وذكر منهم: رَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ8 فالواجب على مريد النجاة الحرص على الإخلاص، واستمرار سلامة القصد والنية.
2- الحذر من الغفلة عن العمل بالقرآن، والتأدب بآدابه، والتخلق بأخلاقه؛ لأن القرآن إنما أنزل ليعمل به، ويتخذ نبراساً ومنهاج حياة قال ابن مسعود : “أنزل القرآن ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملاً، إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفاً، وقد أسقط العمل به”، وقال بعض أهل العلم: “إن العبد ليتلو القرآن فيلعن نفسه وهو لا يعلم، يقول: ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم نفسه، ألا لعنة الله على الكاذبين وهو منهم”، وقال أنس : “رب تال للقرآن والقرآن يلعنه”.
3- الخشية من العجب بالنفس، والتعالي على الخلق، فالعجب استعظام النفس لما بذلت من أسباب لتحصيل حفظ القرآن الكريم، والله تعالى هو الهادي إلى ذلك، والمعين على تسهيله وتحققه، ولولا إحسانه وفضله لما تمكن العبد من حفظ القرآن أو بعضه، والواجب بدلاً من ذلك شكر الله – تعالى – على نعمته بمعرفتها حق المعرفة، وإسناد الفضل إليه – سبحانه – وحده لا شريك له في تحققها، والتعالي على الخلق هو التكبر عليهم، واعتقاد العبد بلوغه مرتبة في الكمال لم يبلغها من حوله، فيتجه إلى احتقارهم وتجهيلهم، ومن كانت هذه حاله فإنه ينسى ما ورد من النصوص في التحذير من مثل ذلك، ومنها قوله تعالى في الحديث القدسي: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ9 وقوله ﷺ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ10.
4- تذكر النصوص الآمرة بتعهد القرآن، والمحذرة من نسيانه، حيث وردت نصوص كثيرة تحث على تعاهد القرآن، وتحذر من هجره ونسيانه، ومنها ما ثبت عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله ﷺ قال: إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ11، وعن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ نُسِّيَ، وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ12 وبسبب هذه النصوص ومثيلاتها تحدث أهل العلم عن الزمن الذي لا يشرع للعبد تجاوزه سواء أكان من حيث القلة أو الكثرة في قراءة القرآن الكريم، فأقل زمن يستحب قراءة القرآن فيه على المختار ثلاثة أيام، والحكمة – والله أعلم – في عدم مشروعية قراءته في أقل من ثلاث أن لا تؤدي سرعة القراءة إلى قلة الفهم والتدبر، أو الملل والتضجر، أو الهذرمة وعدم إتقان النطق، وما ثبت عن السلف من قراءته في أقل من ذلك فهو محمول إما على أنه لم يبلغهم في ذلك حديث من مثل الحديث السابق، أو أنهم كانوا يفهمون ويتفكرون فيما يقرؤونه مع هذه السرعة، أو أن ذلك كان في فترة حماس وكثرة نشاط، أو وقت فاضل كرمضان ونحوه، فأرادوا استغلاله لا أن يكون ذلك عادة لهم في سائر العمر، وأما أوسع زمن جاءت النصوص مبينة مشروعية قراءة القرآن فيه فأربعون يوماً كما ورد فى حديث عبد الله بن عمرو أنه سأل النبي ﷺ: “فِي كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ؟ قَالَ: فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قَالَ: فِي شَهْرٍ، ثُمَّ قَالَ: فِي عِشْرِينَ، ثُمَّ قَالَ: فِي خَمْسَ عَشْرَةَ، ثُمَّ قَالَ: فِي عَشْرٍ، ثُمَّ قَالَ: فِي سَبْعٍ13.
كيف تكون المراجعة؟
لا شك أن الطريقة الأسلم للمراجعة هي تخصيص وقت كاف غير وقت الحفظ يقرأ فيه المرء ما يفتح الله – تعالى – عليه فيه، ولكن نظراً لعدم قدرة كثير من الناس على تخصيص وقت معين لذلك فيمكن استخدام الطرق التالية:
– القراءة في السنن الرواتب غير راتبة الفجر في كل ركعتين ثمن، وفي الصلوات المفروضة وقيام الليل تكون ثمنين، وعلى هذا فالحد الأدنى في اليوم الواحد يكون جزءاً كاملاً من القرآن الكريم.
– القراءة في الصلاة النافلة من غير الرواتب، وفي السيارة، وبين الأذان والإقامة، وأثناء الذهاب للدراسة أو العمل والعودة من ذلك…الخ من حالات الإنسان المناسبة.
– الجلوس بعد الفجر ولو قليلاً للقراءة بحيث يلزم الإنسان نفسه أن يقرأ في ذلك الوقت شيئاً من القرآن الكريم ولو ثمناً واحداً.
– يمكن لأصحاب الهمم العالية استخدام طريقة (فمي مشوق) وهي طريقة كان يستخدمها بعض مشايخ الإقراء في أرض الكنانة بحيث أن الحافظ يستطيع مراجعة القرآن كاملاً في أسبوع واحد، وبيانها كالتالي: الفاء من (فمي مشوق) للفاتحة، والميم للمائدة، والياء ليونس، والميم لمريم، والشين للشعراء، والواو للصافات، والقاف لسورة ق، فيكون المقدار في اليوم الأول من أول الفاتحة إلى أول المائدة، وفي اليوم الثاني من أول المائدة إلى أول يونس، وفي اليوم الثالث من أول يونس إلى أول مريم، وفي اليوم الرابع من أول مريم إلى أول الشعراء، وفي اليوم الخامس من أول الشعراء إلى أول الصافات، وفي اليوم السادس من أول الصافات إلى أول سورة ق، وفي اليوم السابع من أول سورة ق إلى آخر المصحف الشريف.
ونوصي من حفظ شيئاً من القرآن الكريم دون عشرة أجزاء أن لا يمر عليه خمسة عشر يوماً دون إتمام مراجعته14 نسأل اللهَ التوفيق والسداد للجميع، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
1 رواه مسلم (1353) (ج4/ص252).
2 رواه الترمذي برقم (2835) (ج10/ص153) وصححه الألباني برقم (6469) في صحيح الجامع.
3 رواه مسلم (1336) (ج4/ص229).
4 رواه مسلم (1337) (ج4/ص231).
5 تفسير القرطبي (ج1/ص9).
6 تفسير القرطبي (ج17/ص134).
7 رواه أحمد (22523) (ج48/ص123) وصححه الألباني برقم (1555) في صحيح الجامع.
8 رواه مسلم برقم (3527) (ج10/ص9) والنسائي (3086 ) (ج10/ص199).
9 رواه أبو داود (3567) (ج11/ص127) وأحمد (8991 ) (ج19/ص34) وصححه الألباني برقم (4311) في صحيح الجامع.
10 رواه مسلم برقم (131) (ج1/ص247).
11 رواه البخاري (4643) (ج15/ص445) ومسلم (1313) (ج4/ص198).
12 رواه البخاري (4644) (ج15/ص446) ومسلم برقم (1314) (ج4/ص199).
13 رواه أبو داود برقم (1187) (ج4/ص167) وصححه الألباني في تحقيق سنن أبي داود برقم (1395).
14 مستفاد من مجلة البيان.