أيرفع الإمام يديه حال الدعاء في الخطبة

أيرفع الإمام يديه حال الدعاء في الخطبة

أيرفع الإمام يديه حال الدعاء في الخطبة

 

الحمد لله ما حمده الذاكرون الأبرار، والصلاة والسلام على محمد – صلى الله عليه وسلم – ما تعاقب ليل ونهار، وعلى آله وصحبه ما سرى في الأرض حديث السمار أما بعد:

فإنا نجد كثيراً من المسائل الفقهية تقبل الأخذ والرد، والخلاف فيها مستساغ ومقبول، إلا إننا نجد البعض تعاملوا معها على أساس أنها مسلمات ليس عليها غبار، وحق لا يوجد ما ينقضه أو يرده، وإذا أمعنت فيها النظر، ودققت فيها الفكر؛ أدركت أنها مسائل خلافيه تقبل هذا وذاك؛ لاسيما وأن دلالة النصوص محتملة للكل، والفهم للمقصود متفاوت بين أرباب الفن الواحد، والذي ينبغي عمله والحالة هذه؛ الجمع بين النصوص المتضافرة، ومحاولة الترجيح وفقاً للآلية المتفق عليها بين أهل العلم في مسألة الترجيح، بعيداً عن الهوى، أو السعي للانتصار للمذهب ترجيحاً لا يخالف به نقل، ولا يتعارض مع عقل، ويكون المقصود الأسمى التجرد للبحث العلمي، والوقوف على الراجح من المسألة، ومن ثم إعذار المخالف.

ومن جملة تلك المسائل – وما أكثرها – مسألة رفع اليدين في الدعاء حال خطبة الجمعة:

فقد اختلف الفقهاء في حكم رفع اليدين أثناء الدعاء يوم الجمعة، وذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه مكروه في غير دعاء الاستسقاء، والمشروع الإشارة بالإصبع، وهذا هو الصحيح من الوجهين عند الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، حيث جاء في الاختيارات: "ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة، وهو أصح الوجهين لأصحابنا"1.

القول الثاني: أنه بدعة في غير دعاء الاستسقاء، والمشروع الإشارة بالإصبع، وهذا منسوب إلى أكثر المالكية، والشافعية، وبه قال بعض الحنابلة2.

القول الثالث: أنه مباح مطلقاً، وهذا منسوب إلى بعض المالكية، وبه قال بعض الحنابلة3.

الأدلة:

أما أدلة أصحاب القول الأول القائلين "بالكراهة لرفع اليدين" فهي:

أولاً: استدلوا على الكراهة في غير دعاء الاستسقاء، ومشروعية الإشارة بالإصبع بما يلي:

1- ما روي عن عمارة بن رؤيبة – رضي الله عنه -: "أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال: "قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يزيد على أن يقول بيده هكذا (وأشار بإصبعه المسبحة)"4.

2- ما رواه سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: «ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شاهراً يديه قط يدعو على منبره ولا على غيره، ولكن رأيته يقول هكذا (وأشار بالسبابة، وعقد الوسطى والإبهام)»5.

قال في نيل الأوطار: "والحديثان المذكوران في الباب يدلان على كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء"6، وقال ابن القيم – رحمه الله – عن الإشارة بالإصبع: "وكان يشير بإصبعه السبابة في خطبته عند ذكر الله -تعالى – ودعائه"7.

واستدلوا على عدم الكراهة في دعاء الاستسقاء بما يلي:

ما رواه أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: أصابت سنة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فبينما النبي – صلى الله عليه وسلم – يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا!! فرفع يديه – وما نرى في السماء قزعة -، فو الذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته – صلى الله عليه وسلم -، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو قال:  غيره، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا!! فرفع يده فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فما يشير بيده في ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهراً، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود»8، وهذا الحديث واضح الدلالة.

وأما أدلة أصحاب القول الثاني القائلين ببدعيته:

أولاً: استدلوا على بدعية رفع اليدين في دعاء الجمعة، ومشروعية الإشارة بالإصبع بحديث عمارة بن رويبة – رضي الله عنه – الذي استدل به أصحاب القول الأول، حيث شدد عمارة في إنكاره على بشر بقوله: " قبح الله هاتين اليدين"، ثم ذكر حال النبي – صلى الله عليه وسلم -، والإنكار بهذه الصيغة لا يكون إلا على فعل أمراً شديد الحرمة يصل إلى حد البدعة.

ويناقش أصحاب هذا القول بأن الحجة في الحديث هي فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – لا في قول عمارة – رضي الله عنه -، وقد ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث أنس – رضي الله عنه – رفع اليدين في الاستسقاء في خطبة الجمعة، بل إن بعض الفقهاء قد عممه فقالوا بالجواز مطلقاً، وهذا يبعد القول ببدعية رفع اليدين في الخطبة أثناء الدعاء يوم الجمعة.

واستدلوا على القول بالجواز في حال الاستسقاء بما استدل به أصحاب القول الأول من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -.

ودليل أصحاب القول الثالث:

استدلوا بحديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – الذي استدل به أصحاب القولين الأول والثاني على الجواز في حال دعاء الاستسقاء، فحملوه على العموم في الاستسقاء وغيره، فقالوا بالجواز مطلق9.

وقد رد عليهم بأن هذا الرفع كان لعارض الاستسقاء، فيختص بهذه الحالة حيث لم يرد رفعه في غيرها.

الترجيح:

والذي يظهر رجحانه في هذه المسألة – والله أعلم بالصواب – هو القول بكراهة رفع اليدين حال الدعاء في خطبة الجمعة في غير الاستسقاء، لما استدلوا به، ويبعد القول بالبدعة لحديث أنس – رضي الله عنه – الذي قال بعض الفقهاء بعمومه، ولما جاء في بعض الأحاديث من رفع اليدين حال الدعاء في بعض الأحوال في غير خطبة الجمعة، فكأن أصحاب القول الأول توسطوا في المسألة.

فما بقى بعد استعراضنا لهذا المسألة، وتبيين استساغة الخلاف فيها؛ إلا أن يتورع المسلم عن إطلاق الأحكام لمن خالف ما ظنه عنده حجة قطعية، والله أعلم بالصواب.

نسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع، والعمل الصالح.


 


1 الاختيارات لابن  تيمية (80).

2 خطبة الجمعة وأحكامها الفقهية.

3 نسبه إليهم النووي في شرح صحيح مسلم (6162).

4 رواه مسلم برقم (874).

5 رواه أبو داود برقم (1105)، وضعفه الألباني.

6 نيل الأوطار (3/271).

7 زاد المعاد (1/428).

8 رواه البخاري برقم (315).

9 شرح صحيح مسلم  للنووي (6162).