إفشاء السـر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..
أما بعد:
أيها الناس: فإن من المعلوم أن الإنسان مدني بطبعه، يحب الاجتماع والألفة، ويكره الاختلاف والفرقة، لذلك فهو يجالس أفراد مجتمعه، وتدور في تلك المجالس الأحاديث المختلفة، وتختلف المجالس والجلساء، فجليس يحب الثرثرة وكثرة الكلام، وآخر يحب الصمت وقلة الكلام؛ وجليس يحب كثرة الكلام حري بأن يفشي الأسرار ويذيعها، ولا يحفظها.
أيها الناس: إن الأسرار لها أهمية كبيرة في حياة الأمم، فهي من أعظم أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح..
ومن أجل ذلك فقد كانت رعاية الإسلام للمحافظة على الأسرار يستهدف من ورائها تكوين المجتمع الإسلامي، ووضع التشريعات الضابطة لحماية العلاقات وتنميتها أمر لازم لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحية المعنوية.
ولو أُهملت المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، وسُمح للخيانة وفشو الأسرار بالانتشار؛ لزالت المعاني الإنسانية، كالأمانة وكتمان الأسرار، من حياة الناس، وتحولت الحياة الاجتماعية إلى جحيم لا يطاق1.
يقول الماوردي -رحمه الله-: "إن من الأسرار ما لا يُستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم، واستشارة ناصح مسالم، فليختر لسرّه أميناً، إن لم يجد إلى كتمه سبيلاً، وليتحر المرء في اختيار مَنْ يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فليس كل مَنْ كان أميناً على الأموال؛ كان على الأسرار مؤتمناً، والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار؛ لأن الإنسان قد يذيع سر نفسه، بمبادرة لسانه، وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله، حفظاً لَهُ، وضناً به، ولا يرى ما أضاع من سرّه كبيراً، في جنب ما حفظه من يسير ماله، مع عِظَم الضرر الداخل عليه، فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار أشد تعذراً، وأقل وجوداً من أمناء الأموال، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار؛ لأن أحراز الأموال منيعة، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق"2..
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام إلى أن المحافظة على الأسرار مشروطة بأن لا تؤثر في حق الله تعالى أو حق المسلمين، وإلا عُدَّ من الخيانة لحق الله تعالى أو حق المسلمين، وليس حفظ الأسرار هنا من الأمانة3..
أيها المؤمنون: إنَّ حفظ الأسرار وكتمانها أمانة عظيمة، يجب الوفاء بها، وقد حثَّنا الشرع عليها، وحذَّرنا من فشو الأسرار والتفريط فيها، قال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً سورة الإسراء(34 )، وقال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ سورة المعارج(32). ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان)4. وعلى من أُودِعَ سراً أن يحافظَ عليه ولا يفشيه أبداً، وإلا أصبح خائناً، وهي صفة مشابهة للمنافق الذي إذا ائتمن على شيء خانه، كما في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أربعٌ من كُنَّ فيه كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، ومَنْ كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النِّفَاقِ حتى يَدَعَهَا : إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وإِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا عَاهَدَ غَدَر، وإِذَا خَاصَمَ فَجَر)5، وجاء في حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (..إِنَّ بَعْدَكُم يَخُونُونَ ولا يُؤتمنُونَ)6. يقول الكفوي عن عظم المحافظة على الأسرارِ والحذرِ من التساهلِ في التفريطِ فيها: "أوكد الودائع كتم الأسرار"7.
ولذا؛ فإن المحافظة على الأسرار أمر عظيم لا يقوم به إلا الخلَّص من الناس، وقد أجاب الراغب الأصفهاني عن سبب التفريط الشنيع في المحافظة على الأسرار بقوله : "إن للإنسان قوتين: آخذة، ومعطية، وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها، ولولا أن الله تعالى وكَّل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار مَنْ تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها، فعلى الإنسان أن يُمسكها ولا يُطلقها إلا حيثما يجب إطلاقها"8..
وإن مما يجب أن يُعْلَم أن أمناء الأسرارِ عزيزٌ وجودهم، فهم أقل وجوداً من أمناء الأموال، "وحفظ المال أيسر من كتم الأسرار"9.. وخاصة في هذا الزمان!!..
أيها المسلمون: إن الإنسان في بعض الأحيان قد يضطر إلى الإفضاء بأسراره إلى بعض أصدقائه من أجل مشورتهم أو تخفيف بعض همومهم، لكن عليه أن يتخير صاحب السِّر، من وُصِفَ بالأمانة والدِّينِ والعقلِ.
ومن الخصال في صفات أمين السر، أن يكون: "ذا عقل صاد، ودين حاجز، ونصح مبذول، وود موفور، وكتوماً بالطبع"10. ومما ينبغي التنبه إليه في المحافظة على الأسرار وتخير صفات أمين السر ما يأتي:
أولاً: عدم إيداع السر إلى من يتطلع إليه، ويؤثر الوقوف عليه، قال الشاعر:
لا تُذِعْ سراً إلى طالبه *** منك فالطالب للسر مذيع
ثانياً: عدم كثرة المستودَعين للسر، فإن كثرتهم سبب الإذاعة؛ إذ القليل منهم الذي يحافظ على السر11.
وقال الشاعر:
فلا تنطِق بسرك كلُّ سرٍّ *** إذا ما جاوز الاثنين فاشي
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلُّ امرئ مفتاح سرِّه"..
وقال الشاعر:
إِذَا ضَاقَ صَدر المرء عَن سِر نَفسِهِ *** فَصَدر الذِي يستودع السر أَضيَق12
أيها الناس: المجالس بالأمانة، فيجب على الجالس أن يحفظ أسرارها، ولا يحل لَهُ أن يُفشي عن إخوانه ما لا يحبّون أن يخرج عنهم؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَديثَ ثم الْتَفَتَ فَهِي أَمَانَةٌ)13. قال المباركفوري في شرحه: "فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أميناً لما يسمعه أو يراه"14.. ويؤكد هذا المعنى العظيم الحسن البصري بقوله: "إنما تُجالسون بالأمانة، كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا.."15.
فليتق الله المسلم وليعلم أن عليه رقيباً حسيباً يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وليكن عند ثقة أخيه به في كتم سره، وحفظ أمانته، نسأل الله أن يجعلنا من عباده المؤمنين، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه إنه تواب رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: إن حفظ الأسرار وكتمانها من الأخلاق العظيمة التي تُعْلِي من شيم أصحابها وشمائل صفاتهم، فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم جميعاً- مضرب المثل في حفظ الأسرار التي يؤتمنون عليها.
فهذا حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- أمين سِرِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين، وكان يقال له: صاحب السِّر الذي لا يعلمه أحدٌ غيره16.
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن عمر حين تَأَيَّمَتْ بنته حفصة -رضي الله عنها-، قال: "أتيتُ عثمان بن عفان، فَعَرَضْتُ عليه حَفْصَةَ، فقال: سأنظر في أمري. فلبثت لياليَ ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوجَ يومي هذا. قال عمر: فلقيتُ أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئتَ زَوَّجْتُكَ حفصةَ بنتَ عمرَ، فَصَمَتَ أبو بكرٍ، فلم يرجعْ إليَّ شيئاً، وكنتُ أَوْجَدَ عليهِ مني على عثمانَ، فلبثتُ لياليَ، ثم خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنكحتُها إياه. فلقيني أبو بكر فقال: لقد وَجَدْتَ عليَّ حينَ عَرَضْتَ عليَّ حفصةَ فلم أرجعْ إليكَ شيئاً؟ قال عمر: قلت: نعم. قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجعَ إليكَ فيما عرضتَ عليّ إلاَّ أنِّي كنتُ علمتُ أَنَّ رسول -صلى الله عليه وسلم- قد ذكرها، فلم أكنْ لأفْشِيَ سِرَّ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو تركَهَا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم قَبِلْتُهَا"17.
وهذه فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها- تضرب لنا مثالاً في أمانة حفظ السِّر، كما روت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- : "إِنَّا كُنَّا أزواجِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- عنده جميعاً لم تغادرْ منا واحدة، فأقبلت فاطمة -رضي الله عنها- تمشي ما تُخطئ مِشيتَهَا من مِشيةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فلما رآها رحَّب، قال: مرحباً بابنتي. ثم أجلسَها عن يمينه أو عن شماله ثم سَارَّهَا، فَبَكَت بُكاءً شديداً، فلما رأى حُزْنَها سَارَّهَا الثانية، فإذا هي تضحك. فقلت لها: أنا من نسائه خَصَّك رسول الله بالسِّرِ من بيننا ثم أنت تبكين! فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألتُها عَمَّا سَارَّهَا؟ قالت: ما كُنتُ لأفشي على رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سِرَّهُ. فلما توفي قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني! قالت: أما الآن فنعم. فأخبرتني قالت: أما حين سارَّني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل -عليه السلام- كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعمَ السلفُ أنا لك. قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارَّني بالثانية، قال: يا فاطمة! ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة!"18.
ولا يتوقف الأمر على أمانة حفظ الأسرار عند الرجال والنساء من الصحابة بل حتى الغلمان، فهذا أنس بن مالك -رضي الله عنه- الغلام الصغير الذي يخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أَسَرَّ إِلَيَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سِراً فما أخبرتُ به أحداً بعدهُ، ولقد سألتني أم سُلَيم فما أخبرتُها به"19.
فعلى المرء -عباد الله- أن يتخير الأمين لسِرِّهِ، وكما قال عامر بن الطفيل:
إذا أنت لم تجعلْ لسركَ جُنَّةً *** تعرَّضتَ أن تُرْوى عليكَ العَجَائِبُ
وأن كل امرئ عهد إليه بسِرٍّ يجب أن يحفظه؛ سواء حاكماً أو طبيباً أو موظفاً أو عاملاً..، وكما قيل: "قلوب العقلاء حصون الأسرار".20
وما أجمل قول حسان في حفظ الأمين للسر:
وأمينٍ حَفَّظتُه سِرَّ نفسي *** فوعاهُ حِفْظَ الأمينِ الأمينَا.21
وإن المحافظة على الأسرار من أعظم الأمانات في العلاقات؛ ليس على المستوى الفردي فحسب؛ بل على مستوى الدول والحكومات، وكم من أسرار كُشفت للخصوم والأعداء؛ سبَّبت الذل والهوان لأفراد وشعوب وأمم!.
كما أن المحافظة على الأسرار مشروطة بأن لا تؤثر في حق الله تعالى، أو حق المسلمين، وإلا عُدَّ من الخيانة لحق الله تعالى أو حق المسلمين، وليس حفظ الأسرار هنا من الأمانة22.
اللهم إنا نسألك قلبك واعياً أميناً، ونفساً مطمئنة، وخاتمة حسنة، وجنة عرضها السماوات والأرض.. اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 انظر: الاتجاه الأخلاقي في الإسلام، د / مقداد يالجن، صـ(102).
2 أدب الدنيا والدنيا، صـ(296).
3 انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني(2/361).
4 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم (1453).
5 رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ البخاري.
6 رواه البخاري
7 الكليات، صـ( 187).
8 الذريعة إلى مكارم الشريعة، صـ(297).
9 أدب الدنيا والدين، صـ (296).
10 المصدر السابق نفسه.
11 انظر: المصدر السابق، صـ(297).
12 المرجع السابق، صـ(296).
13 رواه الترمذي، وقال: "حسن"، وقال الألباني: "حسن"؛ كما في صحيح الجامع، رقم(486).
14 التحفة في شرح جامع الترمذي، (6/93).
15 إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي (4/125).
16 كما في صحيح البخاري.
17 رواه البخاري.
18 رواه البخاري.
19 رواه البخاري.
20 أدب الدنيا والدين، صـ(296).
21 ديوان حسان بن ثابت، صـ(414).
22 للمزيد يراجع: مجلة البيان، العدد (197) صــ(28).