تشنيف الآذان بأسرار الأذان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن شرائع الإسلام وفرائضه، لا تخلوا من حكم وأسرار أودعها الله سبحانه وتعالى فيهالمن تأملها وتدبرها وتفكر فيها، فالأذان من شعائر الإسلام التي أودعه الله أسراراً وحكماً بليغة لا يعرفها إلا العالمون بدينه, وسنظهر هنا بعضاً من هذه الأسرار متوكلين على الله، راجين منه أن يوفقنا إلى الصواب ويلهمنا طريق الرشاد، ويسدد خطانا نحو الهدى، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اعلم أيها السامع بإذن قلبك, وفقني الله وإياك لا متثال أمر ربي وربك، أن الصلاةأعظم أركان الإسلام، وأجلُّ قواعد الإيمان، وهي قربان المؤمن ونوره، وهي عمود الدين, وعمود الإيمان, والميزان الذي من أوفى به استوفى، وهي خدمة الله في الأرض,هي خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر، وهي قربان كل تقي, وليس بين العبدوالكفر إلا ترك الصلاة.
ولما كانت من أعظم شعائر الإيمان، كان من أعظم شعائرها الأذان؛ لأن الإنسان لا يزال يتقلب في الأطوار، وينتقل في طلب الأوطار، لاهياً بما هو فيه من دنس دنياه، عما خلق له من طاعة مولاه، مشغولاً بما ينبغي الاشتغال عنه, فإذا دخل وقت الصلاة احتاج إلى ما يحثه عليها، ويرغبه إليها، لئلا يلهو عنها بأعماله، ويتشاغل عنها بأشغاله، فكان الأذان هو المرغب إلى أدائها، والمحرك للهمة إلى إجابة ندائها، وكان أول لفظ يقرع السمع منه.
(الله أكبر).زجراً عن الاشتغال بما هو دونه، إذ من شأن كل إنسان بالطبع، أن يطلب أكبر الأمرين فإذا كان كذلك فليفرغ إلى من هو أكبر. فاختيار هذا اللفظ لدلالة الاسم الشريف على جميع صفات الكمال, ونعوت الجلال واشتماله على سائر الأسماء الحسنى,والصفات العليا, لا إله إلا هو وحده لا شريك له.
و(أكبر) أفعل التفضيل الدال على عموم متعلقه, حدِّقْ فلا شيء مما يخطر بالبال أويجوزه الوهم والخيال إلا والله أكبر منه, ولا يخفى لطف هذا وحَثّه على ترك السوى، وعلى اجتماع القلب عليه سبحانه, وتعظيمه والثناء عليه, واستحضار عظمته وكبرائه,وجلاله واستحقاقه لجميع أجزاء المحامد، وإفراد الشكر ودقائق المدح, ولهذا كان التكبير مفتاح الصلاة لقدوم العبد بين يدي جبار السموات والأرض, ليستحضر في صلاته أنه بين يدي الملك الفعال لما يريد, المذل لكل جبار عنيد.,والإله الحق الذي كل الكائنات لا شيء بالنسبة إليه:(وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) فكما كان التكبير مفتاح الصلاة كان مفتاح الأذان؛ لأنه يفتح القلوب بذكر علام الغيوب.
ثم إنَّه لما كان التكبير أول الأذان كرر أربع مّرات تأكيداً؛ لأن السامع في بادئ الأمر متشاغل بما هو فيه فحسن التأكيد هناك زيادة في حضه على الإقبال واطراح الأشغال, وإطفاء لنار الشيطان, وإخماداً لجمرات المعاصي والطغيان، ولما كانت نيران الشهوات تشتعل في كل آن، وجمرات المعاصي تتسعر على كل إنسان كان في التكبير من الإطفاء لها ما لا يخفى على أهل العرفان.
(أشهدأن لا إله إلا الله):
وإذا سمع السامع التكبير بسمعه وقلبه, واجتمع لأداء ما نودي إليه بجوارحه، ولبِّه،والتفت إلى الأكبر الأعظم, سمع قول المنادي (أشهد أن لا إله إلا الله) تذكيراً للسامع بذلك, ليحضه على الالتفات إلى إلهه المنفرد بالألوهية، والتفرغ عن أشغالهوأعراضه, والقيام بطاعته, والفرار إليه, والوقوف بكليته بين يديه، ونفي ما سواه, وإثباته فرداً مختصاً, بالألوهية منفرداً, بالربوبية حقيقاً بالإجلال، أهلاً للعزةوالكمال, معروفاً بالخير والإفضال, متعرفاً إلى خلقه بالفضل والإحسان، مسدياً دقائق الجود وجلائله إلى كل إنسان.
عن عتبان بن مالك –رضي الله عنهما- يرفعه: (لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه)1.
وقالﷺ : (من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة)2, وعن عمر-رضي الله عنه-، قال ﷺ : (أبشرواوبشروا من ورائكم أنه من شهد أن لا إله إلا الله صادقاً بها دخل الجنة)3. وغيرها من الأحاديث .
وأما تأكيد تكرارها, فتأكيد وحض على الإقبال عليه بالقلب, والقالب ,والتلذذ بذكره،وحلاوة المكرر يعرفها ذوو الذوق السليم، ولطف المناسبة بين التكبير والشهادة ظاهر؛لأنه لما أخبر أن الله أكبر كان ترغيبا للعبد في ترك ما سوى الأكبر, وأمراً له بالإقبال عليه والوقوف بالذل بين يديه, وباستشعار الخضوع وملازمة الخشوع، ثم أتى بعد ذلك بما هو أعلى ترقّيا, وهو نفي الألوهية عن سواه، وحصرها فيه ترهيباً للعبدعن تساهله في طاعة إلهه الذي لا إله إلا هو, وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وإذا كان الأكبر لا إله غيره شهادة الحق فكيف يليق بالعبد, المضطر إليه أن يشتغل عنه.
(أشهد أن محمدا رسول الله).
ثم إنه حسن إتباع الشهادة بأختها وهي:”أشهد أن محمداً رسول الله” صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنها لا تقبل هذه إلا بهذه, وللإعلام بأنه-صلى الله عليه وسلم-رسول مرسل من الله عز وجل.
فالتكبير لإيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة, والشهادة لله-سبحانه وتعالى-بالإلهيةلإدراك التبري من الإشراك، والشهادة لمحمد ﷺ بالرسالة للإقرار بما جاء به المختار من الملك الجبار للبراءة من النار، قالﷺ وقد سمع مؤذناً قال: “الله أكبر” “الله أكبر” فقال ﷺ : (على الفطرة) فقال: “أشهد أن لا إله إلا الله” فقال ﷺ : (بريءهذا من الشرك) فقال: “أشهد أن محمداً رسول الله” قال ﷺ (خرج من النار).4وفي التذكير به ﷺ والشهادة برسالته من الحض على اتباعه, واقتفاءآثاره, في الأقوال, والأفعال, والحركات, والسكنات, والقيام بأمره, وإجابة داعية, والإصغاء إلى مناديه, وزيادة ترغيب إلى الصلاة التي جعلت قرة عينه فيها مالا يخفى,وإظهاراً لشرفه ﷺ وإغاضة لمن لم يقبل دعوته, ولم يعد بإجابته, وإعلاناً لدينه الذي جاء به من عند الله-سبحانه-وتذكيراً لمحبة له ﷺ وترويحاً للمشوق إليه, ولإتباع التلذذ بذكر الله-سبحانه-بذكر حبيبه للانشراح بذكر الأحباب ولئلا يتخلى عباده عن ذكره ﷺ وليكون ذكره مبدأ للصلاة, وختاماً فإنه كما جاء في الأذان الذي هو نداء للصلاة, ودعاء إليها الشهادة له بالرسالة, كذلك جاء في التشهد الذي هو آخر الصلاة الشهادة له ﷺ بالرسالة بعد السلام عليه وقبل الصلاة عليه ﷺ إشارة إلى أنه بهذه العبادة العظيمة سرا لندائه، وبهذه النعمة الجسيمة.
(حي على الصلاة):
اعلم أنه بعد تحلي القلب عما سوى الله-سبحانه-بالعلم بأنه الأكبر والشهادة له بالإلهية وحده, وأنه الواجب أن يعبد بحق, والشهادة لرسوله ﷺ بالرسالة الذي هو الهادي إلى الصراط المستقيم، والمعلّم لِلْخَلْقِ كل خُلُقٍ لم يبق للعبد عذر عن طاعة الله-سبحانه-، وطاعة رسوله ﷺ فحسن حينئذ النداء للصلاة (بحي على الصلاة) أي هلُمّ وأقبل إلى الصلاة, وما أحسن إتيان هذا الأمر بالإقبال والقيام إلى الصلاة، وإذا كان الأمر عن الرب الإله المفضل المنعم الرحمن الرحيم، العفو الحليم على لسان رسوله الذي هو بالمؤمنيين رؤوف رحيم،ﷺ فكيف يليق بعاقل أن يتساهل في امتثال هذا الأمر العظيم، أو يؤثر غيره عليه، ويتمهل في القيام إليه, ويتغافل عن الوثوب لإجابة أمره، أو يتكاسل عن النهوض لأداء واجب شكره، وهل يتثبط عن إجابة سلطان هذا الداعي، أو يقعد عن امتثال هذه الأمر الذي لا يغفل عنه واعي.
(حي على الفلاح):
وبعد الأمر بالإقبال على الصلاة وتكراره للتأكيد شرع في ترغيبه بقوله:(حي على الفلاح)أي هلُمّ وأقبل إلى ما به الفلاح، والصلاة هي سبب الفلاح، ومفتاح باب النجاح، وبها ينال العبد ما يروم، ويبلغ ما يتمناه من الحي القيوم، والفلاح هوالفوز, والنجاة, والبقاء في الخير, والصلاة هي سببه الأعظم وأصله المعظم، ولهذا جاء في الكتاب العزيز في وصف المتقين:”الذي يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذي يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ، أولئك على هدى من ربهم وألئك هم المفلحون” وقال تعالى”قد أفلح المؤمنون ، الذين هم في صلاتهم خاشعون” وسماها النبيﷺ فلاحاً فقال النبي ﷺ : (الجفاء كل الجفاء, والكفر, والنفاق من سمع منادي الله-تعالى-ينادي بالصلاة ويدعو إلى الفلاح فلا يجيبه).5
وفي قوله: (حي على الفلاح) بعد الأمر بالصلاة من الترغيب إليها ما لا يخفى حسنه كأنه يقول هلم إلى ما به الفوز والنجاة في الدنيا والأخرى، وكثيراً ما يأتي بعد الأمر الترغيب, وبعد النهي الترهيب بحسب ما تقتضيه المقام.
أخرج مسلم عن عمر-رضي الله عنه-عن النبيﷺ أنه قال:(إذا قال المؤذن: “الله أكبر” فقال أحدكم: “الله أكبر”, ثم قال: “أشهد أن لا إله إلا الله” قال: “أشهد أن لا إله إلا الله”, ثم قال: “أشهد أن محمداً رسول الله” قال: “أشهد أن محمداً رسول الله”, ثم قال: “حي على الصلاة” قال: “لا حول ولا قوة إلا بالله”, ثم قال: “حي على الفلاح” قال: “لا حول ولا قوة إلا بالله”, ثم قال: “الله أكبر” “الله أكبر” قال: “الله أكبر” “الله أكبر” ثم قال: “لا إله إلا الله” قال:”لا إله إلا الله” من قلبه دخل الجنة“6.
فلما ندبﷺ إلى القول كما يقول المؤذن, وكان في القول كما يقول تأديباً للنفس, وتنبيهاً لها من سنة الغفلة, وضرباً لها بسوط الإزعاج, وجذباً لها بأزمة الاشتياق, وعطفاً لها عن أودية الفراق, وتشويقاً لها إلى بلوغ المرام,والتفاتاً بها إلى رفيع المقام, وتمريناً لها على الطاعة, وارتحالاً عن طلل الإضاعة, لتذهب حلاوة الذكر مرارة النسيان, وتجري بها أنها المراقبة إلى رياض الإيمان, فتبسم زهور المحبة, وتطيب أثمار المناجاة، وتغرد طيور جنات الشهود ليسمع أرباب السماع, ويعوا ويفوز بالتمتع بفواكه (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)7. فإذا سمع العبد الأذان بقلبه وآذانه, ونطق به بفؤاده ولسانه, كان أرفع إنابة وأسرع إجابة, وأجدر أن لا يتغافل عن امتثال أوامره،وسماع زواجره, ولما قال المؤذن: “حي على الصلاة” “حي على الفلاح” وعلم السامع أن الأمر عظيم, والخطب جسيم، وأنه يدعوه إلى البدار إلى خطاب الملك الجبار، والقيام بين يدي ملك الأملاك، ومدير الأفلاك، الذي خلقه في أحسن تقويم، وخصه بإحسانه العميم، فخلق له السمع, والبصر, والفؤاد،ووكل به ملائكة يحفظونه في كل إصدار وإيراد
فحسن أن يقول عند أمره بالقيام لمناجاة الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني لا حول عن معصية الله إلا بقوة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله.
فإذا علم العبد عجزه عن القيام بأمر الله، وضعفه عن ترك مناهي الله، ونظر بعين البصيرة إلى حقارته وذله, وأنه ليس له حول ولا قوة على إجابة هذا الداعي، وأداء ما طلبه منه من حميد المساعي، واجتناب البطالة, والفرار عن أدران الجهالة.
(لاإله إلا الله)
لما كان الله-سبحانه-هو الأول والآخر، ومنه البداية وإليه النهاية، ختم هذا العقد الفريد بلفظ “لا إله إلا الله” الذي قامت به السموات والأرض, فكان ابتداء الأذان بلفظ الجلالة من “الله أكبر”، وختمه بها أيضاً من “لا إله إلا الله” وفي حسن الختام بها التفاؤل بأن يكون آخر الكلام فيفوز قائلها بحسن الختام، فقد قال ﷺ وفيما أخرجه الإمام أحمد, وأبو داود, والحاكم, في المستدرك عن معاذ بن جبل-رضي الله عنه-: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)8.
فكان ختم الأذان بهما لما فيهما من الفضل العظيم, والفيض العميم, ولإفرادها مع تشفيع كلمات الأذان سر لطيف يفهمه كل ذي فهم شريف، إذ لا يخفى على الفطن العارف القايل9 في ظل رياض المعارف أن الله-سبحانه-وتر يحبّ الوتر، كما أخبر بذلك المصطفىﷺ أهل الصّفا، فلما كانت كلمات الأذان شفعاً, وترت بكلمة الشهادة, كما وترت صلاة النهار بصلاة المغرب, وصلاة الليل بصلاة الوتر، قال ﷺ : (المغرب وتر النهار, فأوتروا صلاة الليل)10.
فالشهادة في أول الأذان المقصود منها تنبيه ذوي الأشغال ,والتحريض في المبادرة بسلوك الامتثال، والسامع في أوّل الأذان أقرب إلى الغفلة والانشغال بالمحال، وهو في آخر الأذان بخلاف ذلك الحال إذا كان واعياً للمقال، وأمّا من استولت كثافة الغفلة على فؤاده, وقطعت عوائق الخسران طرق رشاده, فهو بمعزل عن الجميع، وإذا نودي إلى الخير فهو غير سميع.
فائدة:
إعلم وفقني الله وإياك أن الصلوات الواجبات خمس، والسنن المؤكدة، التي كان النبي ﷺ لا يتركها حضراً وسفراً سنة الفجر, ووتر الليل، وفي كلمات الأذان إلى ذلك إشارة؛ لأن الظهر, والعصر, والعشاء أربعاً أربعاً، والتكبير كلمتا الشهادة على رواية التربيع والترجيع مشابهة لها في كونها أربعاً أربعاً، وصلاة الفجر وسنتها ركعتان ركعتان، وحي على الصلاة, وحي على الفلاح مثنى مثنى, ولما كانت”حي على الفلاح” تابعة في المعنى “لحي على الصلاة” وكانت سنة الفجر تابعة لصلاة الفجر حصلت المناسبة ووقعت المشابهة، ولما كان المغرب وتر صلاة النهار، والوتر المندوب إليه وتر صلاة الليل، ناسب الوترين التكبير في آخر الأذان، وكلمة الشهادة إشارة إلى تغاير الوترين وصحة الإيثار بواحدة, وفي إيجادها في كونها كلها كلمات ذكرالله-سبحانه-إشارة إلى المغرب الذي هو وتر النهار، فإنه لا يكون إلا ثلاثاً؛ لأنه لو جعل الوتر النهار مشابهاً لذهب الوتر وكانت كلماته شفع11.
اللهم نبهنا من سنة الغفلة, وأزل عن القلب ر تاجه وقفله, وافتح مسامعنا لسماع ندائك, وفقه قلوبنا لفهم دعائك. واجعل قرة أعيننا في الصلاة, وفهم معاني كلماتك، وأقبل بقلوبنا إلى ما به الصلاح والفلاح. واجعلنا ممن لهجت منهم بذكرك الألسنة, والقلوب, والأرواح، واختم أعمالنا وأقوالنا بكلمة الشهادة،آمين اللهم آمين.
1 – صححه الألباني في صحيح الجامع رقم(7720).
2 – المعجم الأوسط،وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6318).
3 – وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 35).
4 – أخرجه أبو الشيخ في الأذان.
5 – الطبراني في الكبير عن معاذ.
6 -صحيح مسلم.
7 – سنن الترمذي.
8 – رواه أحمد (22034).
9 – من القيلولة
10 -رواه أحمد (4847).
11 – راجع/ رسالة الأمير الصناعي تشنيف الآذان بأسرار الأذان.