احذرها في إمامتك
من توفيق الله – تعالى- للعبد أن تراه يهتم ويركز على الفرائض التي فرضها الله عليه تعلماً، وتطبيقاً، وتأملاً في جوانب الخلل فيها؛ فيصلحه، ويجعل هذا الهم هو الهاجس الأعظم والأكبر في حياته كما قال – تعالى – في الحديث القدسي: من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه1.
وبما أن الإمام هو من خوله الله ليتولى الناس في أعظم فريضة افترضها الله عليهم؛ فهو معنيٌّ بأمور تخصه بالمقام الأول لا بد أن يراعيها، ويتنبه لها ما دام وهو في شرف الإمامة، ومن هذه الأمور:
1- عدم استحضار النية في فضيلة الإمامة، وما لها من الأجر:
فإن للإمامة منزلة رفيعة، ومرتبة جليلة؛ يكفي في فضيلتها أن عباد الرحمن يدعون ربهم – جل وعلا – فيقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا 2، وقد دعا النبي ﷺ للإمام فقال: اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين3، وجاء عن ابن عمر – رضي الله عنهما -: أن رسول الله ﷺ قال: ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة – وذكر منهم -: ورجلاً أمَّ قوماً وهم به راضون…4، فالذي يتأتى على الإمام – وخاصة الراتب – استحضار النية الصالحة، واحتساب الأجر عند توليه إمامة الناس، والصلاة بهم، ففي حديث عمر موقوفاً: “احتسبوا أيها الناس أعمالكم، فإن من احتسب عمله كتب له أجر عمله، وأجر حسبته”5
2- طغيان المادة والمصالح الدنيوية على نية الاحتساب:
وهذا الأمر في غاية الخطورة؛ فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والإمامة عبادة جليلة ينبغي أن يراعى فيها الإخلاص، ويتمثل ذلك في القيام بأمانتها على الوجه الأكمل، ثم لا مانع أن يأتي تبعاً – وبدون استشراف نفس – ما يناله من مصالح مادية، ودنيوية، وليحرص على تصحيح نيته دائماً وأبداً، ويتفاني في القيام بمهام الإمامة على أكمل وجه؛ مبتغياً بذلك وجه الله وحده، ويكف النفس عن التطلع إلى هذه المصالح، ويصرف النظر عنها.
3- ترك السنة الثابتة، وعدم تطبيقها خوفاً من غضب الناس:
ومن ذلك على سبيل المثال:
– قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر الجمعة.
– الحرص على تسوية الصفوف حتى ولو دعا ذلك إلى أن يمشي الإمام إلى ميمنة الصف، أو ميسرته؛ لتعديله وإقامته.
– رفع الصوت بالأذكار بعد الفريضة.
– السجود بعد السلام في السهو إذا كان السهو عن زيادة في الصلاة.
وعليه أن يسعى ليقيم درساً لجماعة المسجد يبين فيه أهمية المتابعة، وأن الأعمال لا تقبل إذا خلت من هذا الشرط، ويكون ذلك مدخلاً لتعريف الناس بما كان يفعله النبي ﷺ في عباداته ومعاملاته؛ حتى يتقبل الناس ما لم يعتادوا عليه من السنة.
4- التكلف في أسلوب القراءة:
وهذا لا يعني عدم التغني بالقرآن الذي قال فيه النبي ﷺ: ليس منّا من لم يتغن بالقرآن6، وإنما المراد التكلف في تطبيق أحكام التجويد بطريقة تخرج عن المقصود، فمثلاً قلب الفتحة ألفاً عند محاولة تحقيقها، أو الضمة واواً، أو الكسرة ياءً، وهكذا في المدود فربما مد بعض حروف المد مداً فاحشاً، كما أن التنطع في تجميل الصوت يذهب ببهاء الصلاة ورونقها، ويبعث على النفور في قلوب المأمومين.
وبالجملة فإن التكلف في القراءة يذهب الخشوع في الصلاة، وهذا هو أحد أسباب عدم الارتياح أو الخشوع خلف بعض الأئمة، فالدربة على القراءة الصحيحة، وتحري القراءة الخاشعة الغير متكلفة؛ علاج ناجع لتفادي هذه المشكلة، وهذا لا يكون إلاّ بالتلقي على أحد القراء المتقنين، ومما يدل على أهمية التلقي، وعدم الاكتفاء بقراءة بعض كتب التجويد، أو سماع أشرطة القرآن؛ أن الله أمر نبيه أن يقرأ سورة البينة على أبي بن كعب قال أُبي: “وسمّاني – يعني الله – قال: نعم، فبكى أُبي”7
وكذلك فإن جبريل كان يدارس النبي ﷺ “القرآن في كل سنة مرة، حتى كانت آخر سنة في حياته دارسه القرآن مرتين”8، فمن يظن أنه في غنى عن ذلك فإنه مخطئ خطأً عظيماً.
5- التأخر عن الوقت المحدد للإقامة من غير سبب معقول:
وهذا أحد الأسباب التي تفضي إلى كثير من الإشكالات في بعض المساجد، وينبغي على الإمام أن يراعي ظروف الناس، فربما كان هناك من جماعة المسجد من يكون على موعد مهم يلحقه ضرر كبير بالتأخر عنه مثل: موعد سفر، أو حضور إلى عمل، أو مراجعة دائرة، أو جهة قد يتضرر كثيراً بالتأخر عنها.
فالحرص على التهيؤ للحضور قبل موعد الإقامة، وقطع المشاغل التي قد تكون سبباً في التأخر مثل: الرد على الهاتف، أو مجاراة من في المجلس ولو كان من تجالسه ضيفاً ونحو ذلك؛ مهمٌ لتفادى إشكاليات صخب الناس وضجيجهم.
وبهذه المناسبة فإن من السنَّة أن لا يأتي الإمام إلا وقت الإقامة كما كان هدي النبي ﷺ في ذلك، وهذا قد يجهله بعض العامة، وقد يرونه خطأً أو مأخذاً على الإمام وهذا ليس بصحيح، فقد ثبت عنه أنه قال: إذا أُقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني9.
6- الجهل بالأولويات وإهمال بعض الواجبات:
فتجده يركز على أمور قد يكون في استحبابها نظر، وهذا لا يعني التقليل من شأن العبادات المستحبة، والسنة الثابتة؛ وإنما المقصود عدم ترك الواجب للقيام بمستحب فمثلاً: الذهاب للاعتكاف في مكة في شهر رمضان وترك الإمامة، أو توكيل من قد لا يرضاه الناس، وهذا خطأ بيِّن؛ فإن العمرة والاعتكاف سنة، والقيام بالإمامة واجب.
ومثل الإسراع في الصلاة زاعماً أنه يعمل بحديث: إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف10، وينسى أن الذي قاله كان يصلي صلاة معتدلة، فعلم أن المراد بالتخفيف ما كان يفعله، إذ لا يمكن أن يقول الرسول محمد ﷺ ما لا يفعل – حاشاه -، وخاصة أن هذا الفعل متعد وليس بقاصر، حتى يقال: يختص النبي ﷺ بما لم يختص به غيره، وقد كان يصلي صلاة تامة متناسبة، وكان إذا أطال القيام أطال الركوع، والسجود، والاعتدال بعد الركوع، والجلوس بين السجدتين، وإذا خفف القيام خفف الركوع، والسجود، وما بينهما، وكان يقرأ في الفجر من ستين آية إلى مئة آية، وكان يقرأ فيها بسورة (ق) ونحوها من السور.
فحري بك يا من اصطفاك الناس لإمامتهم أن تجعل هذه التنبيهات نصب عينيك، وأن تحرص على تفاديها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإن هذه مما تخدش في كمال إمامتك، وقد تفتح لك جبهة في مسجدك، ومواجهة مع من استشرفوك لإمامتهم أنت في غنى عنها.
نسأل الله أن يوفقنا وإياك وسائر المسلمين لما يحبه ويرضاه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على النذير البشير.
3 رواه الترمذي برقم (191) وأبو داود برقم (434) وقال الألباني صحيح.
4 رواه الترمذي برقم (1986) وضعفه الألباني.
5 عمدة القاري (1 /312)
6 رواه البخاري برقم (7089).
7 صحيح البخاري (3598).
8 البخاري برقم (6).
9 رواه البخاري برقم (601) ومسلم (949).
10 رواه البخاري برقم ( 662) ومسلم (716).