هل تقام الحدود في المساجد

هل تقام الحدود في المساجد

 هل تقام الحدود في المساجد

 

الحمد لله وحده؛ نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ثم الصلاة على نبيه وصفيه من خلقه، وخاتم رسله أما بعد:

فإن الحد عند أهل اللغة: الطرف، وحد الشيء طرفه، ومنه يقال حدود فلان – أي أطراف أملاكه -، ويقال حدوداً لدولة كذا – أي أطراف ما تحكمه -، كما يطلق الحد على التعريف بالشيء عند علماء الأصول، ومنه قولهم وحده كذا – أي تعريفه -، والحد عندهم هو ما كان جامعاً مانعًا – أي جامع لما بداخله، ومانعاً لغيره من أن يدخل فيه -، ومنه سميت الحدود لأنها تمنع المحدود من معاودة الجريمة، والحدود هي ما كانت مقدرة من الشارع بمقدار معين؛ كالرجم والجلد حد للزاني، وقطع اليد حد للسرقة … وغيرها؛ فهذه لا يجوز للحاكم أن يجتهد في مقدارها لأنه منصوص على مقدارها من الشارع الحكيم، ويرادف الحدود؛ التعزيز: وهو ما لم يكن مقدراً من الشارع بمقدار معين، فهذه يجتهد فيها الحاكم بحسب مايراه رادعاً للمرتكب عن معاودة ارتكاب الجريمة.

ومقصد الشارع من الحدود هو الردع والزجر؛ حتى لا ينتشر الفساد في الأرض، وحتى يطهر مرتكب الجريمة من الذنوب، ومنه قوله – صلى الله عليه وسلم – لخالد عندما سب المرأة التي رجمت: ((لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم))1 فما دام أن هذه الحدود كفارات للذنوب فهل يجوز إقامتها في المساجد؟ هذا ما سنتناوله في هذا المبحث، ويمكن أن نلخص هذه المسألة في قولين لأهل العلم:

القول الأول: لا يجوز إقامة الحدود في المساجد؛ لاحتمال أن يتلطخ المسجد بشيء من النجاسة الخارجة من المحدود؛ فيتأذى الملائكة والمصلون من هذه النجاسة، وهذا لا يليق بالمساجد؛ لأنها بيوت الرحمن، وهي مواطن تنزل فيها السكينة، وتغشى أهلها الرحمة، وتحفهم الملائكة، ويطمئن فيها المسلمون، وفيها تتأدب القلوب، وتتهذب النفوس، وتصفو الأرواح، وفيها كل معاني الرحمة واللطف؛ لأن رسالتها معنوية، فلا يليق إقامة الحدود بها؛ لما فيها من معاني التخويف والردع، والزجر والتعذيب، والتنكيل.

ودليلهم: السنة والإجماع: أما من السنة فحديث  حكيم بن حزام – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقام الحدود في المساجد، ولا يُستقاد فيها))، وأما الإجماع فقد نقله أبو حنيفة – رحمه الله –  حيث قال في ابن أبي ليلى "إنه أقام الحد في المسجد, ولا يقام الحد فيه إجماعاً"، وهذا هو مذهب كافة العلماء مستدلين بالسنة والإجماع، ومعللين النهي بما ذكرناه من اتساخ المساجد، وإيذاء المصلين والملائكة، وأن الحدود لها أماكن تخصها مما تليق بها، والمسجد لا يليق بها، وممن قال بهذا القول الإمام الشافعي – رحمه الله –  كما نقله عنه تلميذه المزني – رحمه الله – فقال: قال الشافعي – رحمه الله -: "ولا تقام الحدود في المساجد"2، بل إن هذا القول هو المعتمد عند الشافعية كما حكاه صاحب الروضة والإعانة؛ معللين ذلك بأنه قد يتسخ المسجد من جراحة تحدث فقال صاحب الروضة: "لا تقام الحدود في المسجد ولا التعزير، فإن فعل وقع الموقع كالصلاة في أرض مغصوبة"3، وقال صاحب الإعانة: "ولا تقام الحدود في المسجد لخبر أبي داود وغيره ((لا تقام الحدود في المساجد))، ولاحتمال أن يتلوث من جراحة تحدث"4، وإلى هذا ذهب فقهاء الحنابلة فقال ابن قدامه – رحمه الله -: "ولا تقام الحدود في المساجد لما روى حكيم بن حزام – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (( نهى أن يستقاد في المسجد، وأن ينشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود))؛ لأنه لا يؤمن أن يحدث من المحدود شيء يتلوث به المسجد، فان أقيم فيه سقط الفرض لحصول المقصود وهو الزجر؛ ولأن المرتكب للنهي غير الحدود، فلم يمنع ذلك سقوط الفرض عنه كما لو اقتص في المسجد"5،  وَقَالَ فِي الْحَاوِي الْكَبِيرِ: "وَيُجَنَّبُ الْمَسْجِدُ إقَامَةَ الْحُدُودِ، وَكَذَا قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ، وَقَالَ فِي الْمُقْنِعِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ: وَلَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَذَا قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَالْوَجِيزِ وَالْمُنَوِّرِ… وَغَيْرِهِمْ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ إقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: "لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ"6، قال صاحب كتاب "المسجد مهد الانطلاقة الكبرى": فالقلوب لا تتأدب إلا بالتربية المتأنية، والكلمة اللينة، والقدوة الحسنة، وهذه كلها وجدت في مسجده -صلى الله عليه وسلم -، أما أن تتحوَّل المساجد إلى دور للتَّعزير والضرب، وأماكن لتأديب المخطئين؛ فهذا ما لا يليق بها، ولا يتفق مع دورها العظيم في حياة المجتمع، ولذلك فإن قطع يد السارق، وجلد الزاني البكر، ورجم الزاني الثيب، وجلد شارب الخمر… وغيرها من الحدود والعقوبات الشرعية لا تكون في المساجد؛ لأن معنى ذلك أنها سوف تتحول من منازل للرحمة والسكينة إلى ثُكْنات للتخويف، وقِلاع لتأديب المجرمين والعصاة الذين يمكن تأديبهم في مكان آخر غير المسجد، فانظر أخي المسلم إلى روعة الإسلام وجماله وكماله؛ حينما جعل المساجد أماكن لتربية النفوس وتهذيبها، وتربيتها التربية الإسلامية الفاضلة، فإذا ما عصت هذه النفوس وتمردت؛ فإن علاجها وتأديبها يكون خارج المسجد".

القول الثاني: يجوز إقامة الحدود في المساجد إذا كانت جلداً وأدلتهم ما يلي:

أولاً: إن حديث حكيم بن حزام رواه أحمد وأبو داود والدار قطني بسند ضعيف، وأخرجه أيضاً الحاكم وابن السكن والبيهقي قال: الحافظ ابن حجر في كتابه "التلخيص الحبير": "لا بأس بإسناده"، وقال في بلوغ المرام: "إن إسناده ضعيف"، وجاء من حديث ابن عباس عند الترمذي وابن ماجه, وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف من قبل حفظه, ومن حديث جبير بن مطعم عند البزار, وفيه الواقدي، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه ابن لهيعة.

ثانيا: إن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فإذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا أنتفت العلة انتفى الحكم كما قرر الأصوليون، فلو نظرنا إلى العلة عند المانعين لوجدناها اتساخ المسجد، وهذه ليست موجودة في الجلد، وإنما هي في الرجم والقطع … وغيرها من الحدود التي تؤدي إلى الجراحات.

ثالثاً: إن الله – تعالى- قال: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ7، فلو كان الجلد حراماً لفصله الله لنا، وممن قال بهذا القول ابن أبي ليلى، وشريح النخعي، وعمرو بن دينار.8

فرد عليهم أصحاب القول الأول بالآتي:

أولاً: قولكم إن الحديث ضعيف لايصح، لأنه قد ورد من طرق حسنة؛ كطريق صدقة بن خالد قال الألباني – رحمه الله -: "وصدقة بن خالد ثقة احتج به البخاري، وقد رفعه – أي الحديث –  لاسيما وقد تابعه زهير بن هنيد وهو مقبول كما في "التقريب"، وعندي أن الحديث حسن بالنظر إلى متابعة العباس بن عبد الرحمن لزفر ابن وثيمة؛ لأن أحدهما يقوي الآخر، وقد يرقى إلى درجة الصحيح لغيره بشواهده التي منها حديث ابن عباس مرفوعاً بلفظ: ((لا تقام الحدود في المسجد، ولا يقتل الوالد بالولد)) وقد أخرجه الترمذي والدارمي وابن ماجه"9.

ثانياً: أن علة الاتساخ لا زالت موجودة وهو أن المجلود قد يبول من شدة الخوف.

ثالثاً: إن الله قد فصل لنا ماحرم علينا، ومن هذا التفصيل حديث حكيم بن حزام – رضي الله عنه – الذي حرم إقامة الحدود في المساجد.

والراجح والله أعلم هو القول الأول لثبوت الحديث من طرق كثيرة، ولصراحة دلالته، وكذلك الإجماع الذي نقله أبو حنيفة – رحمه الله -، ولما تقتضيه مصلحة المسجد.

اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، وصل على نبيك محمد وعلى آله.

والحمد لله رب العالمين.


 


1 – رواه مسلم (ج9 رقم 1696).

2 – مختصر المزني (ج1/ص267).

3 – روضة الطالبين وعمدة المفتين (ج 3/ص 484).

4 – إعانة الطالبين (ج4/ ص 178).

5 – الشرح الكبير لابن قدامة (ج 10/ ص127).

6 – الفروع لابن مفلح (ج 8/ص 228).

7 – (الأنعام: من الآية119).

8 – مصنف ابن أبي شيبة (ج6/535).

9 الثمر المستطاب – (ج1/ص697).