المحكم والمتشابه في القرآن

المحكم والمتشابه في القرآن

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد قال الله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (سورة آل عمران:7) وقد دلت هذه الآية على أن القرآن الكريم منقسم إلى محكم ومتشابه.

وقد اختلف في تعيين المحكم والمتشابه على أقوال، فقيل: المحكم ما عُرِفَ المراد منه إما بالظهور، وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروف المقطعة في أوائل السور، وقيل: المحكم ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه، وقيل: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما احتمل أوجهاً، وقيل: المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات، واختصاص الصيام برمضان دون شعبان قاله الماوردي، وقيل: المحكم ما استقل بنفسه، والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره، وقيل: المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل، وقيل: المحكم ما لم تكرر ألفاظه، ومقابله المتشابه، وقيل: المحكم الفرائض، والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال، عن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات منسوخه، ومقدمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به، وأخرج الفريابي عن مجاهد قال: المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضاً، واخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: المحكمات هي أوامره الزاجرة. وأخرج عن إسحاق بن سويد أن يحيي ابن يعمر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية، فقال أبو فاختة: فواتح السور، وقال يحيى: الفرائض والأمر، النهي والحلال. وأخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات قل تعالوا والآيتان بعدها، وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله تعالى فيه آيات محكمات قال: من ها هنا قل تعالوا إلى ثلاث آيات، ومن ها هنا وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه إلى ثلاث آيات بعدها، وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: المحكمات ما لم ينسخ منه، والمتشابهات ما قد نسخ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: المتشابهات فيما بلغني: ألم والمص، والمر والر، قال ابن أبي حاتم: وقد روى عن عكرمة وقتادة وغيرهما أن المحكم الذي يعمل به، والمتشابه الذي يؤمن به ولا يعمل به.

هل المتشابه مما يمكن الاطلاع على علمه أو لا يعلمه إلا الله؟

اختلف فيه على قولين منشؤهما الاختلاف في قوله: والراسخون في العلم هل هو معطوف؟ ويقولون: حال أو مبتدأ خبره يقولون، والواو للاستئناف، وعلى الأول طائفة يسيرة منهم مجاهد، وهو رواية عن ابن عباس، فأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم قال: إنا ممن يعلم تأويله، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله: والراسخون في العلم قال: يعلمون تأويله، ويقولون آمنا به، وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: الراسخون في العلم يعلمون تأويله، لو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمه من متشابهه، واختار هذا القول النووي فقال في شرح مسلم: إنه الأصح لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته، وقال ابن الحاجب: إنه الظاهر، وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم خصوصاً أهل السنة فذهبوا إلى الثاني، وهو أصح الروايات عن ابن عباس. قال ابن السمعاني: لم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة، واختاره العتبي قال: وقد كان يعتقد مذهب أهل السنة لكنه سها في هذه المسألة، قال: ولا غرو فإن لكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة، قلت: ويدل لصحة مذهب الأكثرين ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره والحاكم في مستدركه عن ابن عباس أنه كان يقرأ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول: والراسخون في العلم يقولون آمنا به فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة فأقل درجتها أن تكون خبراً بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدم كلامه في ذلك على من دونه، ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه، ووصفهم بالزيغ، وابتغاء الفتنة، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله، وسلموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب، وحكى الفراء أن في قراءة أُبيّ بن كعب أيضاً: ويقول الراسخون، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق الأعمش قال في قراءة ابن مسعود: وإن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به، وأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: تلا رسول الله  هذه الآية: هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله: أولوا الألباب قالت: قال رسول الله  : فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم، وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله  يقول: لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يعلم تأويله إلا الله… الحديث.1

وعن ابن مسعود  عن النبي  قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا2  وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: “نؤمن بالمحكم وندين به، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به، وهو من عند الله كله”، وأخرج أيضاً عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه، وأخرج أيضاً عن أبي الشعثاء وأبي نهيك قالا: إنكم تصلون هذه الآية وهي مقطوعة3. وأخرج الدارمي في مسنده عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له (صبيغ) قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن صبيغ، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى دمى رأسه، وفي رواية عنده: فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: لا يجالسه أحد من المسلمين.

وأخرج الدارمي عن عمر بن الخطاب قال: إنه سيأتيكم ناس يجادلونكم بمشتبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله.

فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه إلا الله، وأن الخوض فيه مذموم، وسيأتي قريباً زيادة على ذلك. قال الطيبي: المراد بالمحكم ما اتضح معناه، والمتشابه بخلافه، لأن اللفظ الذي يقبل معنى إما أن يحتمل غيره أو لا، والثاني النص، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك الغير أرجح أو لا، والأول هو الظاهر، والثاني إما أن يكون مساويه أو لا، والأول هو المجمل، والثاني المؤول، فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه، ويؤيد هذا التقسيم أنه تعالى أوقع المحكم مقابلاً للمتشابه، قالوا: فالواجب أن يفسر المحكم بما يقابله، ويعضد ذلك أسلوب الآية وهو الجمع مع التقسيم، لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: منه آيات محكمات وأخر متشابهات وأراد أن يضيف إلى كل منهما ما شاء فقال أولاً: فأما الذين في قلوبهم زيغ إلى أن قال: والراسخون في العلم يقولون آمنا به وكان يمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك والراسخون في العلم لإتيان لفظ الرسوخ لأنه لا يحصل إلا بعد التثبت العام، والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على طرق الإرشاد، ورسخ القدم في العلم؛ أفصح صاحبه النطق بالقول الحق، وكفى بدعاء الراسخين في العلم: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا الخ شاهداً على أن الراسخين في العلم مقابل لقوله: الذين في قلوبهم زيغ وفيه إشارة إلى أن الوقف على قوله إلا الله تام، وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله – تعالى -، وأن من حاول معرفته هو الذي أشار إليه في الحديث بقوله: فاحذرهم وقال بعضهم: العقل مبتلى باعتقاد حقيقة المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادة، كالحكيم إذا صنف كتاباً أجمل فيه أحياناً ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره.

وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد، فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والمتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها استسلاماً واعترافاً بقصورها.4

هذا مما يتعلق بالمحكم والمتشابه في القرآن الكريم. نسأل الله أن يفقهنا في كتابه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، إنه على كل شيء قدير.


1 رواه الطبراني في المعجم الكبير، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب.

2 رواه أحمد والنسائي والحاكم، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.

3 أي أن الواو في قوله تعالى: والراسخون في العلم استئنافية، ويعني هذا انقطاع الجملة عما قبلها في الحكم.

4 الإتقان، للسيوطي (ص231-233).