عثرات في طريق إمامتك

عثرات في طريق إمامتك

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على الحبيب المجتبى، وآله، وصحبه، ومن اقتفى، أما بعد:

الإمام ذاك الرجل الذي يستشرفه الناس، ويرفعون إليه أبصارهم، ويضعون عليه منتهى ثقتهم، وقد يجعلونه مستودع أسرارهم، والقاضي في مشاكلهم، ومحلاً لفتواهم فيما استجد لهم من أمور دينهم ودنياهم، ولذا فالمهمة المناطة به عظيمة، والمسئولية التي تبوأها مهيبة جسيمة، تحتاج منه جهد مضني، ونجاح مجني، يستلهم سناه من نور رباني، وتوفيق إلهي، تحتاج منه أن يعيد النظرة في أمور ربما لم يعطها قدرها من الاهتمام، أو تعامل معها بشيء من التساهل؛ تضعف دوره المنشود، وتحجم من مكانته المطلوبة، هي في الحقيقة عوائق تنزل من قدره، وتضع من حجمه كإمام حقه الإجلال والتوقير، فلا أقل من وقفة مراجعة ليتداركها ويتفادها إن كان ورد منه التقصير والخلل فيها، ولا يغفل أنه من اختاره الناس لإمامتهم، وطرحوا عليه ثقل تولية شؤون مسجدهم، فيربأ بنفسه من تلك العثرات ومنها:

  • عدم التسلح بالعلم الشرعي المؤصل:

فترى بعض الأئمة بحجة الارتباط بالمسجد يعزف عن حضور الدروس العلمية، وهذا بلا شك خطأ فادح؛ فإن أولى الناس بهذه الدروس هم الأئمة؛ لأن الإمام يتعرض لكثير من الأسئلة التي يحتاج أصحابها إلى الجواب العلمي المؤصل المبني على علمٍ وبصيرة، وهذا لا يكون إلا بثني الركب عند العلماء زمناً طويلاً

أخي لن تنال العلم إلا بستـة سأنبيك عن مضمونها ببيان
ذكاء وحرص واصطبار وبلغة وإرشاد أستاذ وطول زمان

ولا تجعل المسجد عذراً حائلاً دون حضورك مجالس العلماء، صحيح أن الأمر يحتف به شيء من المشقة؛ ولكن العلم أغلى من أن يناله الإنسان بيسر وبدون جهد ولا مشقة.

ولو دققت في  مجالس العلماء لوجدت أن دروسهم جلُّ من يحضرها من أئمة المساجد، ولكن يبقى عدد كبير من الأئمة لا يعرف الطريق إلى هذه الدروس مع إمكانية ذلك – ولا حول ولا قوة إلا بالله -.

* عدم فتح قنوات يمكن من خلالها كسب قلوب الناس، والتعرف على قضاياهم: وهذه القنوات يمكن أن نذكر منها:

1- عمل لقاء أسبوعي يسمى (مجلس أهل الحي)، يجتمع فيه الإمام وجماعة المسجد ليتباحثوا فيه القضايا المتعلقة بأهل الحي، وشؤون المسجد ونحوها.

2- تكوين لجنة منتقاة من طلبة العلم، وكبار السن، والحريصين على صلاة الجماعة؛ للقيام بزيارة جيران المسجد الذين يتأخرون عن الصلاة مع الجماعة، مع الحرص على أن تكون النصيحة بطريقة غير مباشرة أثناء الزيارة، وبأسلوب مقبول.

3- القيام بإعداد مسابقات ثقافية للأسر يركز فيها على معالجة بعض الأخطاء المنتشرة في الحي، وتوزيع جوائز على الفائزين، ويكون ذلك في لقاء يتخلله برنامج معد، ووجبة عشاء يحضرها كل جماعة المسجد.

4- عمل صندوق خيري تجمع فيه التبرعات، ويرسل بخطابات للأثرياء والمحسنين بطلب التبرع لهذا الصندوق، ويشرف الإمام ولجنة مختارة على هذا المال ليصرف على مشاريع الدعوة في المسجد.

5- اجتماع شهري لجماعة المسجد على وجبة عشاء بإحدى الاستراحات يكون الغرض منه التقارب، والخروج عن الروتين المعتاد في الحي والمسجد.

فلا بد أن يفتح الإمام قنوات وصل مع من يرى فيه رجاحة العقل، وحنكة التصرف خاصة من كبار السن، ويفعّل دورهم في ذلك، مع الحرص الشديد على إظهار الاحترام والوقار لذوي الشأن، وعلية القوم، ويؤكد على حضورهم لهذا اللقاء، مع السعي الدائم لجمع المبالغ لتغطية ما يحتاجه مثل هذا اللقاء وغيره من النشاطات الأخرى، ولا ينسى أن هولاء رداء له في مسجده، ومستند سيحتاجهم كثيراً وخاصة في الأزمات، فلا يتهاون بشأنهم.

* الضجر وعدم الصبر على ما قد يصدر من بعض جماعة المسجد:

الإمام في المسجد والحي يقوم بوظيفة الرسل من الدعوة إلى الله – تعالى-، ومواجهة الانحرافات عن الطريق الموصلة إلى الله، وهذه الوظيفة تصطدم مع رغبات وعادات وآراء بعض الناس، فهو عرضة للمواجهة والانتقاد، بل والعداء أحياناً من بعض هؤلاء؛ ولذلك يحتاج الإمام إلى التسلح بالصبر، والتحمل، والعفو لينجح في مهمته؛ لذلك أمر الله – تعالى- نبيه  بالصبر في أول سورة أرسل بها فقال – تعالى-: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ۝ قُمْ فَأَنذِرْ۝ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ۝ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ۝ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ۝ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ۝ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ 1، فإنه لما أمر بالإنذار كان لزاماً أن يؤذى، فوجب الصبر، وكذلك قال لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ2.

فتوقع الأذى سلفاً مطلوب؛ حتى إذا حدث كان أمراً طبيعياً، وللعلم بأن الأذى دلالة على محبة الله – تعالى – كما قال النبي  : أشد الناس بلاءً الأنبياء والصالحون، ثم الأمثل، فالأمثل3.

* التصدر للفتيا في كل مسألة، وعدم الجرأة على قول “لا أدري”:

بعض الأئمة – غفر الله لنا ولهم – يتحرج من ظهوره أمام الذي يطرح عليه سؤالاً بمظهر عدم العارف، فيدفعه ذلك إلى الإجابة عن كل مسألة تعرض عليه، فيجيب أحياناً بلا علم، ويظن أنه لو لم يفعل ذلك لنفر الناس منه، ولم يقبلوا عليه، وهذا عين الخطأ، بل إن الناس إذا عرفوا من الإمام التورع في الفتيا كان لجوابه على ما يعلم قبولاً، واطمئناناً، وأحبته القلوب، وإذا تجرأ على القول بلا علم فإن أول من يمقته سائله؛ فإنه يفتيه ثم يظهر له بعد ذلك أن هذه الفتوى مجانبة للصواب إما بسماع عين هذه المسألة في الإذاعة، أو في شريط، أو في درس لأحد العلماء، فتزول الثقة من هذا الإمام، ولربما أشاع هذا السائل تلك الزلة بين جماعته وجيرانه، فضلاً عن أن القول على الله بغير علم كبيرة من الكبائر، بل عده بعض العلماء أعظم من الإشراك بالله – تعالى -، وقد استنبطوا ذلك من قول الله – تعالى –: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ4 فبدأ بالأهون، ثم الذي يليه، فكان الترتيب من الأدنى إلى الأعلى، وجعل القول على الله بغير علم بعد الشرك بالله – تعالى – يقول ابن القيم: “وأما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه المحرمات تحريماً، وأعظمها إثماً، ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان، ولا تباح بحال، بل لا تكون إلا محرمة، وليست كالميتة، والدم، ولحم الخنزير؛ الذي يباح في حال دون حال”5.

وليكن لإمام المسجد في إمام دار الهجرة الإمام مالك – رحمه الله – القدوة والأسوة، فقد عرضت عليه مسألة فقال: لا أدري، فقال له السائل: إنها مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردت أعلم بها الأمير، وكان السائل ذا قدر، فغضب مالك وقال: مسألة خفيفة سهلة!!، ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله – تعالى -: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا6، فالعلم كله ثقيل وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة. وقال عبدالرحمن بن مهدي: كنا عند مالك، فجاء رجل فقال: يا أبا عبدالله جئتك من مسيرة ستة أشهر، حملني أهل بلادي مسألة أسألك عنها، فقال: سل، فسأله، فقال: لا أدري، فقُطع بالرجل وكأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء، قال: وأي شيء أقول لأهل بلادي إذا رجعت إليهم؟ قال: تقول لهم قال مالك: لا أدري، وسئل – رحمه الله تعالى – عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين: لا أدري7.

وفي الختام نسأل المولى – جل وعلا – أن يوفقنا وأئمة مساجدنا إلى ما فيه رضاه، ونسأله – تعالى – أن يرزقنا وإياهم الإخلاص في القول والعمل، وأن يغفر خطايانا، وأن يتوب علينا، ونسأله أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يفقهنا في ديننا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.


1 (المدثر:1-7).

2 (لقمان:17).

3 رواه الترمذي برقم (2322) وقال الألباني: حسن صحيح.

4 (الأعراف:33)

5 مدارج السالكين (1-372).

6 (سورة المزمل:5).

7 سلسلة أعلام المسلمين لعبد الغني الدقر ( 242).