المسجد جامع وجامعة
إن الحمد لله نحمده – تعالى – ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه – فصلوات الله وسلامه عليه – أما بعد:
فإن المسجد في الإسلام هو مكان العبادة، وهو كذلك المكان الذي يصدر منه إمام المسلمين كل فتاواه في شتى شؤون الدين والدنيا، وهو مجتمع المسلمين، ومنتداهم لتدبير شؤونهم العامة والخاصة، وهو الذي يلوذ به كل مسلم ليبسط آلامه وآماله، والملجأ الذي يلجأ إليه كل مظلوم ليعرض مظلمته، ولينال الإنصاف، وهو القلعة الحصينة التي تقف أمامها كل قوى الشر خاسرة خائرة القوى، مشلولة الإرادة، عاجزة عن العمل وتدبير المؤامرات ضد الإسلام، والمسجد مظهر الروحانية العظمى في الإسلام، وهو منارة التوحيد، وشعار الإيمان، وملاذ الخائف، وموئل المستضعف، وقد زاده الله – عز وجل – تشريفاً فسماه "بيت الله"، وجعل ثواب عمارته عظيماً، وجعل بناءه عملاً كبيراً عنده، وجعل الصد عنه ومنع المسلمين من دخوله للعبادة؛ جريمة لا تعدلها جريمة.
المسجد ومكانته في الإسلام؟
عندما كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – في مكة كان البيت الحرام هو ملجأ المسلمين جميعاً، وهو مناط أملهم، وهو مأمنهم، وهو سر قوتهم، وهو مكان عبادتهم، ولما هاجر الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة فإنه بمجرد وصوله إليها بدأ في بناء المسجد النبوي الشريف، وقبل أن يدخلها كان في قباء، وبنى مسجداً وصلى فيه، وصلى معه رفيقه في الهجرة أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – وأرضاه، ولما بنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المسجد النبوي صار دار الإمارة، ومقر الحكم، ومجلس العلم، ومصدر التشريع، ومعقد الفتيا، ومكان التنظيم والإدارة، وموضع استقبال الوفود أفراداً وجماعات.
وفي المسجد النبوي كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجلس ويلقي خطبه على الناس، ويرشدهم ويثقفهم ويعلمهم؛ حتى صار المسجد النبوي جامعة من الجامعات، وفيه كان يجلس خلفاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأعلام الصحابة هادين مرشدين معلمين؛ وصار المسجد النبوي مكان عبادة، ومكان علم، ومكان إدارة وتنظيم لشؤون المسلمين عامة، ما صغر من هذه الشؤون وما كبر، وفي كل مكان يصل إليه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها كانوا يبدؤون ببناء المسجد فيتخذونه مكاناً للعبادة، ومكاناً للتعليم والإرشاد والإفتاء، وتنظيم شؤون المسلمين، وبذلك صار المسجد في الإسلام جامعاً للمسلمين للعبادة، وجامعة للعلم والتعليم.
وهكذا رأينا المسجد الحرام في مكة يصير بعد فتحها جامعة كبرى يتصدر في حلقاته كبار الصحابة، ومن بعدهم من كبار التابعين، ثم أئمة العلماء إلى يومنا هذا، وكان مسجد عمرو بن العاص – رضي الله عنه – في مصر، والمسجد الأموي في دمشق، ومسجد القيروان بتونس، ومسجد قرطبة، ومسجد فاس الذي صار جامعة للقرويين، ومسجد الزيتونة في تونس الذي صار بعد فترة جامعة الزيتونة، وفي كل مكان في مشرق العالم الإسلامي ومغربه؛ صار المسجد رمزاً للإسلام، ومكان عبادة، ومجلس علم، وصارت الحلقات العلمية التي يتصدرها كبار العلماء تعقد في كبريات المساجد، ويؤمها الطلاب من كل مكان، ويعم صيتها ويذيع اسمها في كل مكان، ومساجد قرطبة وأشبيلية وغرناطة… وغيرها من مدن أسبانيا، وكان شباب أوروبا يحجون إليها للتعلم والإفادة وطلب المعرفة، وصارت مساجد أسبانيا هي التي تثقف شباب أوروبا، وتخرجهم من الظلام والجهالة والوحشية إلى النور والعلم، والحضارة والمعرفة، والخير والإنسانية والتمدن، والمسجد في الإسلام هو سر قوة المسلمين؛ فيه الإمامة، وفيه الجماعة، وفيه الدين، وفيه الدنيا، وفي الصلوات الخمس، نرى الجماعة تجمع شمل المسلمين، وتنظم صفوفهم، وتوحد كلمتهم، وترفع رايتهم، وتقوى كلمتهم، وتجعلهم يداً واحدة على أعدائهم، وفي كل جمعة، وكل عيد، وكل أمر، وكل خطب؛ نرى المسجد عاملاً كبيراً في دعم وحدة المسلمين، وجمع شملهم، وتقوية صفوفهم، وتوحيد كلمتهم.
فالمساجد هي قبلة المسلمين ومحرابهم، وهي معلمتهم ومثقفتهم، وموجهتهم ومرشدتهم لما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وكما أن المسجد في الإسلام هو سر قوة المسلمين في الماضي؛ فيجب أن يكون هو سر قوتهم في الحاضر والمستقبل أيضاً.
والمسجد في الحاضر يجب أن يكون ملحقاً به؛ مكان للضيافة، ومكان لإقامة مراسم الزواج، كما يجب أن تلحق به دار علاج مجانية لمداواة المرضى، ودار لتحفيظ القرآن الكريم، ودار لتكون مقراً لمكتبة إسلامية ثقافية، ودار لتكون ملجأ للعجزة من المسلمين، وبالجملة فالمسجد يجب أن يكون مجمعاً للعبادة والعلم والعلاج وحفظ القرآن الكريم، وللضيافة ولإطعام الطعام للفقراء والغرباء وأبناء السبيل، ويجب أن يكون هو الذي يحمل راية اليقظة للمسلمين، وهو الذي ينفخ فيهم روح العزة والكرامة، والإيمان والدين، والغيرة على حرمات الله – عز وجل -، ومشعلاً يضيء للمسلمين طريق الحياة، ويجب أن يكون منه وفيه أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما استطاع المسلمون إلى ذلك سبيلاً يقول الإمام ابن تيمية – رحمه الله -: "إنه الركن السادس للإسلام"، ويجب أن تنطلق منه الأصوات الخيّرة الداعية لعمل الخير والبر، والإحسان والصدقة، ورعاية اليتامى والمساكين والأرامل.
والمسجد يجب أن تنطلق منه دعوات النجدة للذين تحل بهم الكوارث، وتنزل بهم النكبات، ويفاجئهم الدهر بمآسيه وآلامه وأحزانه، ويجب كذلك أن تنطلق منه الدعوات الخيرة البنّاءة لبذل المال من أجل رفع شأن الحي الذي يكون المسجد فيه، لرفع شأنه صحياً، ونظافةً، وعمراناً، ورخاءً، وبناءً لدور العلم والعمل والمصانع الصغيرة، وللمساكن المخفضة الإيجار للفقراء، ولكل ما يساعد على راحة الفقراء وتخفيف الآلام عنهم.
ويجب أن يعمل من أجل بث روح الدين في النفوس، ومناهضة الأفكار السامة، والآراء الضالة، والمذاهب المنحرفة، والمبادئ المسمومة، وأن ينير الطريق أمام الشباب ليزدادوا إيماناً بالله وبالدين، وبالشريعة وبمبادئ الإسلام القويمة، ويجب أن يعمل من أجل تهذيب الأخلاق، وتربية النفوس، وتقويم العقول، وإيقاظ الضمائر، وإحياء صفات الخير في المسلمين من أمانة ووفاء، وعدل ورحمة، وإحسان وإيثار، وشجاعة وكل خلق كريم، وعمل جليل وجميل ونافع للأمة والمجتمع.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا يا كريم، والحمد لله رب العالمين.