ليس في وجهه مزعة لحم

ليس في وجهه مزعة لحم

ليس في وجهه مزعة لحم

 

الحمد لله الواحد الأحد, الفرد الصمد, الذي لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفواً أحد, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم وعلى ربه اعتمد, أما بعد:

فقد أمر الشرع بطلب الرزق المباح وعدَّه عبادة، ونهى عن سؤال الناس وتكففهم؛ قال –عليه الصلاة والسلام: (ما أكل أحد طعاما قط خيراً من أن يأكل من عمل يده, وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده)1. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم)2.

وإن من مظاهر تربية الإسلام للمسلمين أن وجههم إلى إفراد الله بالمسألة دقت أو جلت، كثرت أو قلت, ومن ذلك توجيه المسلمين إلى الكسب المباح، عن طريق الكدح والعمل، والمشي في مناكب الأرض، حتى يعف الإنسان نفسه، ويستغني عن غيره, كما وجههم في المقابل إلى أن يترفعوا عن مسألة الناس، ونفرهم من ذلك الخلق الذميم إلا من كان مضطرا ًأو متحملاً حمالة، أو من أصابته جائحة أو فاقة، أو نحو ذلك, كما أرشدهم إلى أن اليد العليا خير من اليد السفلى؛ فمنع القادر على الكسب من بسط كفه؛ للاستجداء إذا كان في استجدائه إراقة لماء وجهه, بل إن من أحكام الشريعة إباحة التيمم للمكلف، وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء؛ لما في ذلك من المنة التي تنقص حظا وافرا من أطراف الهمة الشامخة, بل ومنها عدم إلزام الإنسان باستهابة ثوب يستر به عورته في الصلاة؛ صيانة لضياء وجهه من الانكساف بسواد المطالب.

ومن الأحكام القائمة على رعاية هذا الخلق أن التبرعات لا تتقرر إلا بقبول المتبرع له؛ إذ قد يربأ به خلق العزة عن قبولها؛ كراهة احتمال منتها، والمنة تصدع قناة العزة؛ فلا يحتملها ذو مروءة إلا في حال ضرورة، ولا سيما منة تجيء من غير ذي طبع كريم، أو قدر رفيع.

إن عزة النفس تلقي على صاحبها وقاراً وجلالاً، ومكانة في القلوب، وذلك مما تنشرح له صدور العظام, وإنما يعاب الرجل إذا جعل هذه المكانة غايته المنشودة، دون أن يكون الحامل عليها رضا الله، ومن ثم نفع الآخرين.

وكما أن للعزة أثراً في الأفراد فكذلك لها آثار صالحة في الأمة؛ فالأمة التي تشرب في نفوسها العزة يشتد حرصها على أن تكون مستقلة بشؤونها، غنية عن أمم غيرها، وتبالغ في الحذر من الوقوع في يد من يطعن في كرامتها، أو يهتضم حقاً من حقوقها.

وهذه –أيها الإخوة في الله- نبذة من النصوص الشرعية الواردة في شأن العزة وعدم سؤال الناس ما بأيديهم, فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)3. وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره, خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه)4. وقال -عليه الصلاة والسلام-: (من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء أو خيرا أوسع من الصبر)5. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا؛ فليستقل أو ليستكثر)6.7.

نسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، إنك غني كريم، رؤوف رحيم.

 


 


1 رواه البخاري برقم (1930) (ج 7 / ص 235).

2 رواه البخاري برقم (1381) (ج 5 / ص 325) ومسلم برقم (1724) (ج 5 / ص 246)واللفظ البخاري.

3 روه الترمذي برقم (2440) (ج 9 / ص 56) وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني برقم (7957) في صحيح الجامع.

4 رواه البخاري برقم(1377) (ج 5 / ص 319) ومسلم برقم (1727) (ج 5 / ص 249) واللفظ للبخاري, , وأما لفظ مسلم: (لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه ذلك؛ فإن اليد العليا أفضل من اليد السفلى وابدأ بمن تعول).

5 رواه البخاري برقم (5989) (ج 20 / ص 108) ومسلم (1745) (ج 5 / ص 274).

6 رواه مسلم برقم (1726) (ج 5 / ص 248).

7 مستفاد من كتاب دروس رمضان لـ(ابن عثيمين) (ج 1 / ص 132وما بعدها).