دفن الميت في المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف وأكرم مبعوث إلى العالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
لقد بعث الله النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعوة التوحيد، فقام وبلغ دين الله -تعالى-، وحارب الشرك فقضى عليه، ونشر عقيدة التوحيد، وما زالت الأمة الإسلامية تنعم بهذه العقيدة الصافية حتى فشا فيها الجهل وانتشرت الخرافات والشركيات والبدع، وكان من الأمور المحرمة التي انتشرت بين المسلمين دفن الميت في المسجد، وهذا أكبر مظهر من مظاهر الوثنية التي ورثها المسلمون الجاهلون عن الديانات السابقة، والتي لعن الله أصحاب تلك الديانات بسببها، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت عائشة: فلولا ذلك أبرز قبره غير أنه خَشي أن يُتخذ مسجد1. وفي صحيح مسلم أن رسول الله قال: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك). وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها في الحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة).
ومما يؤسف له أن كثيراً من مساجد المسلمين فيها قبور! إما في قبلة المسجد، أو طرف منه، أو في صحنه، أو في حديقته، وكأن المسلمين لم يعلموا أن آخر وصية لنبيهم -صلى الله عليه وسلم- كانت التحذير من هذه الوثنية المكشوفة.2
وإذا كان اليهود والنصارى يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فإن بعض القبور التي في مساجد المسلمين هي لأناس عاديين، أوصوا بأن يدفنوا في المسجد الذي بنوه، أو سعوا في بنائه، أو في الأرض التي أوقفوها في سبيل الله. وأشنع هذه القبور تلك التي تكون في قبلة المصلين، فيصلون إليها وما علموا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها).3
“وقال ابن رجب في فتح الباري: هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها، كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراده؛ فتصوير صور الآدميين يحرم، وبناء القبور على المساجد بانفراده يحرم كما دلت عليه نصوص أخر.”4
وقال الألباني: لقد تبين من الأحاديث السابقة خطر اتخاذ القبور مساجد، وما على من فعل ذلك من الوعيد الشديد عند الله -عز وجل-، فعلينا أن نفقه معنى الاتخاذ المذكور حتى نحذره فأقول: الذي يمكن أن يفهم من هذا الاتخاذ، إنما هو ثلاث معان: الأول الصلاة على القبور، بمعنى السجود عليها، الثاني: السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء. الثالث: بناء المساجد عليها، وقصد الصلاة فيها.. إلى أن قال: وأما المعنى الثالث فقد قال به الإمام البخاري، فإنه ترجم للحديث الأول بقوله: (باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور). فقد أشار بذلك إلى أن النهي عن اتخاذ القبر مسجداً يلزم منه النهي عن بناء المسجد عليه، وهذا أمر واضح وقد صرح به المناوي كما سبق آنفاً، وقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: قال الكرماني: مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجداً، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومها متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان، وإن تغير المفهوم). وهذا المعنى هو الذي أشارت إليه السيدة عائشة -رضي الله عنها- بقولها في آخر الحديث الأول: (فلولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً.
قال: فهذه الرواية -على إرسالها- تدل على أمرين اثنين: أحدهما: أن عائشة -رضي الله عنها– فهمت من الاتخاذ المذكور في الحديث أنه يشمل المسجد الذي قد يدخل فيه القبر، فبالأحرى أن يشمل المسجد الذي بني على القبر.
الثاني: أن الصحابة أقروها على هذا الفهم، ولذلك رجعوا إلى رأيها فدفنوه -صلى الله عليه وسلم- في بيتها.. فهذا يدل على أنه لا فرق بين بناء المسجد على القبر، أو إدخال القبر في المسجد، فالكل حرام لأن المحذور واحد، قال الحافظ العراقي: (فلو بنى مسجداً بقصد أن يدفن في بعضه دخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه، لم يصح الشرط، لمخالفة وقفه مسجداً). نقله المناوي في فيض القدير.
قال:- وفي هذا إشارة إلى أن المسجد والقبر لا يجتمعان في دين الإسلام.5
والحمد لله رب العالمين،،