إمامة الأعمى

إمامة الأعمى

إمامة الأعمى

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أما بعد:

فإن من المسائل الهامة التي يجب معرفة حكمها في باب الإمامة؛ إمامة الأعمى، وقد تكلم العلماء عليها قديماً وحديثاً، فمنهم: الذي رخص فيها، ومنهم: من كرهها، ومنهم: من منعها، ولعلنا أن نستعرض أقوالهم في هذه المسألة حتى يتبين لنا حكمها.

أولاً: الإجماع على جواز إمامة الأعمى:

قال صاحب "عون المعبود": وَمِنْهَا – أي الفوائد من حديث أنس – جَوَاز إِمَامَة الْأَعْمَى، وَلَا خِلَاف فِي جَوَاز ذَلِكَ"1، وقد نقل ابن المنذر الإجماع فقال: "وإباحة إمامة الأعمى كالإجماع من أهل العلم، وقد روينا عن ابن عباس أنه أمهم وهو أعمى، وليس في قول أنس بن مالك – رضي الله عنه -: "وما حاجتهم إليه" نهي عن إمامة الأعمى فيكون اختلافاً"2، ومستند هذا الإجماع حديث أنس في ابن أم مكتوم، ومحمود بن الربيع في عتبان بن مالك.

ثانياً: من رخص في إمامته من غير كراهة:

قال ابن الأمير الصنعاني: "والْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ الْأَعْمَى مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةِ ذَلِكَ"3، وقال النووي – رحمه الله -: "واتفقوا على أنه لا كراهة في إمامة الأعمى للبصراء"4، وقال الزهري: "إن أناساً من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – كانوا يؤمنون وهم عميان؛ منهم: عتبان بن مالك، ومعاذ بن عفراء، وابن أم مكتوم"، وقال أبو جعفر: "أمَّنا جابر بعدما ذهب بصره"، وقال عمرو بن عطية: "أمَّنا المسيب وهو أعمى".

ثالثاً: من كره إمامة الأعمى:

قال ابن عباس – رضي الله عنه -: "كيف أؤمهم وهم يعدلوني إلى القبلة"، وقال زياد النمري: "سألت أنساً عن الأعمى يؤم فقال: ما أفقركم إلى ذلك"، وقال سعيد بن جبير: "الأعمى لا يؤم.."، كما كره إمامته الأحناف فقال صاحب "المبسوط": وَيَجُوزُ إمَامَةُ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَابِيِّ، وَالْعَبْدِ وَوَلَدِ الزِّنَا، وَالْفَاسِقِ، وَغَيْرُهُمْ أَحَبُّ إلَيَّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَكَانَ الْإِمَامَةِ مِيرَاثٌ مِنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَقَدَّمَ لِلْإِمَامَةِ، فَيُخْتَارُ لَهُ مَنْ يَكُونُ أَشْبَهَ بِهِ خُلُقًا وَخَلْقًا، ثُمَّ هُوَ مَكَانٌ اُسْتُنْبِطَ مِنْهُ الْخِلَافَةُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَمَّا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ قَالَتْ الصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ: إنَّهُ اخْتَارَ أَبَا بَكْرٍ لِأَمْرِ دِينِكُمْ فَهُوَ الْمُخْتَارُ لِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ، فَإِنَّمَا يُخْتَارُ لِهَذَا الْمَكَانِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ فِي النَّاسِ"5.

دليلهم:

قال في "المبسوط": وَإِنَّمَا جَازَ إمَامَةُ الْأَعْمَى لِأَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّةً، وَعِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ مَرَّةً, وَكَانَا أَعْمَيَيْنِ، وَالْبَصِيرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا – بَعْدَ مَا كُفَّ بَصَرُهُ: أَلَا تَؤُمُّهُمْ؟ قَالَ: كَيْف أَؤُمُّهُمْ وَهُمْ يُسَوُّونَنِي إلَى الْقِبْلَةِ؟ وَلِأَنَّ الْأَعْمَى قَدْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَصُونَ ثِيَابَهُ عَنْ النَّجَاسَاتِ، فَالْبَصِيرُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ"6.

قيد الكراهة عندالاحناف:

قال صاحب "البحر": وَقَيَّدَ كَرَاهَةَ إمَامَةِ الْأَعْمَى فِي الْمُحِيطِ … وَغَيْرِهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ أَفْضَلَ الْقَوْمِ، فَإِنْ كَانَ أَفْضَلَهُمْ فَهُوَ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ تَقْدِيمُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الرِّجَالِ الصَّالِحِينَ لِلْإِمَامَةِ فِي الْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهُ حِينَئِذٍ، وَلَعَلَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ أَفْضَلَ مَنْ كَانَ يَؤُمُّهمُ"7.

رابعاً: من رأى أنهما متساويان:

قال الشافعي: "وأحب إمامة الأعمى، والأعمى إذا سدد إلى القبلة كان أحرى أن لا يلهو بشيء تراه عيناه، ومن أم صحيحاً كان أو أعمى فأقام الصلوات أجزأت صلاته، ولا أختار إمامة الأعمى على الصحيح؛ لان أكثر من جعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إماماً بصيراً، ولا إمامة الصحيح على الأعمى؛ لأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يجد عدداً من الأصحاء يأمرهم بالإمامة أكثر من عدد من أمر بها من العمي"8.

والراجح عند الشافعية أنهما سواء قال الخطيب "وَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ فِي الْإِمَامَةِ سَوَاءٌ" قال البجريمي: "أَيْ لِتَعَارُضِ فَضِيلَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَنْظُرُ إلى مَا يَشْغَلُهُ فَهُوَ أَخْشَعُ، وَالْبَصِيرُ يَنْظُرُ الْخُبْثَ فَهُوَ أَحْفَظُ عَنْ النَّجَاسَةِ، وَالْكَلَامِ إذَا اسْتَوَيَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ، وَإِلَّا فَمَنْ تَرَجَّحَ بِصِفَةٍ قُدِّمَ بِهَا كَأَعْمَى فَقِيهٍ وَبَصِيرٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، فَالْأَعْمَى حِينَئِذٍ يُقَدَّمُ، فَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: "الْحُرُّ الْأَعْمَى أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ الْبَصِيرِ، وَمِثْلُ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ فِي الِاسْتِوَاءِ السَّمِيعُ مَعَ الْأَصَمِّ، وَالْفَحْلُ مَعَ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ، وَالْأَبُ مَعَ ابْنِهِ، وَالْقَرَوِيُّ مَعَ الْبَلَدِيِّ" اهـ.

وَلَوْ كَانَ الْبَصِيرُ لَا يَتَحَاشَى عَنْ النَّجَاسَةِ قُدِّمَ الْأَعْمَى عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ الْأَعْمَى غَيْرَ خَاشِعٍ قُدِّمَ الْبَصِيرُ عَلَيْهِ"9.

الترجيح:

إن المتأمل في أقوال العلماء يترجح عنده أن البصير إذا كان أقرأ للقرآن، وأفقه؛ فإنه يقدم، وكذلك الأعمى، وأن العبرة بحديث النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي قال فيه: ((يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَةً، فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا))10، والله أعلم.

اللهم وفقنا لكل خير، والحمد لله رب العالمين.


 


1– عون المعبود (ج4/ ص 297).

2– الأوسط لابن المنذر (ج6 / ص 142).

3– سبل السلام (ج2 / ص 360).

4– المجموع (ج4 / ص 287).

5–  المبسوط (ج1/ ص 109).

6– المرجع السابق (ج1/ ص 109).

7– البحر الرائق شرح كنز الدقائق (ج3/ ص 396).

8– الأم (ج1/ ص 192).

9– حاشية البجيرمي على الخطيب (ج5/ ص 123).

10 – صحيح مسلم برقم (673).