النصر

النصـر

النصـر

 

الحمد لله العظيم في قدره، العزيز في قهره، العالم بحال العبد في سره وجهره، الجائد على المجاهد بنصره، وعلى المتواضع من أجله برفعه، أحمده على القضاء حلوه ومره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقامة لذكره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالبر إلى الخلق في بره وبحره، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر السابق بما وقر من الإيمان في صدره، وعلى عمر معز الإسلام بحزمه وقهره، وعلى عثمان ذي النورين الصابر من أمره على مره، وعلى علي ابن عمه وصهره، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما جاد السحاب بقطره، وسلم تسليماً.. أما بعد:

أيها المسلمون: إن الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر في كتابه الكريم وعداً محققاً، فقال -عز وجل-: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ(51) سورة غافر، وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي(21) سورة المجادلة، وقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ(171-173) سورة الصافات، وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40) سورة الحـج. وبين الله سبحانه وتعالى بأن النصر بيده ومن عنده، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ(126) سورة آل عمران، وليس "بكثرة العدد وشدة البطش، وأنه ينصر القليلَ على الكثير إذا شاء، ويخلِّي الكثير والقليل، فيهزم الكثير"1.

"فليعلق القلب بالله، وليثق به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82) سورة يس. وصدق الشاعر حين قال:

رمى بك الله جنبيها فحطمها            ولو رمى بك غير الله لم يصبِ

فالنصر في شهب الأرماح لامعة        بين الخميسين لا في السبعة الشهبِ

وقال الآخر:  

ويوم بدر لقيناكم لنا مدد  *** فيه مع النصر جبريل وميكالُ

عباد الله: لكي ننتصر على الأعداء في أرض الميدان لا بد أن يسبق ذلك "الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة"2. "فالذين يرتكبون جميع المعاصي ممن يتسمون باسم المسلمين، ثم يقولون: إن الله سينصرنا مغرورون؛ لأنهم ليسوا من حزب الله الموعدين بنصره، كما لا يخفى"3.

"فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في أحد إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب، والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين، والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي، إلى النظام التعاوني من عدة النصر… وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر"4.

إن النصر يسبقه تمحيص وابتلاءات وشدائد وزلزلة شديدة، وصدق الله حيث يقول: إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(10-11) سورة الأحزاب.

أيها المسلمون: إننا نعاني اليوم شر أنواع الهزيمة ألا وهي الهزيمة النفسية، والتقليد والتبعية لأعداء الدين، وهي أشد من الهزيمة العسكرية، لأنها هزيمة في العقيدة والأفكار، فالمهزمون فكرياً وعقدياً لا يجدون ناصراً ينصرهم، ولا شافعاً يشفع لهم، ولا يمنعون من عذاب الله، ولا يعانون على خلاصهم وفكاكهم من موبقات أعمالهم.

إن الانهزام العسكري ليس بشيء، إذا كانت العقيدة صحيحة، ولنا في غزوة أحد خير مثل.

نعم، إن "الاستعلاء مع ضعف القوة، وقلة العدد، وفقر المال، كالاستعلاء مع القوة والكثرة والغنى على السواء، الاستعلاء الذي لا يتهاوى أمام قوة باغية، ولا عرف اجتماعي، ولا تشريع باطل، ولا وضع مقبول عند الناس، ولا سند له من الإيمان، وليست حالة التماسك والثبات في الجهاد إلا حالة واحدة من حالات الاستعلاء التي يشملها هذا التوجيه الإلهي العظيم… ومن ثم يجيء هذا التوجيه: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(139) سورة آل عمران، إن المؤمن هو الأعلى: الأعلى سنداً ومصدراً، فما تكون الأرض كلها؟ وما يكون الناس؟ وما تكون القيم السائدة في الأرض؟ والاعتبارات الشائعة عند الناس؟ وهو من الله يتلقى، وإلى الله يرجع، وعلى منهجه يسير؟"

إن  الله -عز وجل- جعل للنصر أسباباً: "فذكر تعالى من عوامل النصر: الثبات عند اللقاء، وذكر الله والطاعة، والامتثال، والحفاظ عليها بعدم التنازع والصبر عند الحملة والمجالدة، فتكون حملة رجل واحد، وكلها داخلة تحت معنى البنيان المرصوص في قوته وحمايته وثباته، وقد عاب تعالى على اليهود تشتت قلوبهم عند القتال في قوله تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى(الحشر: 14)  وامتدح المؤمنين في قتالهم بوحدتهم كأنهم بنيان مرصوص"5.

ومن أسباب النصر الاتفاق والاعتصام والألفة، وترك التنازع، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ*وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (45-46) سورة الأنفال.

ومن أسباب النصر: الإيمان الصادق بالله ورسوله, والجهاد الصادق في سبيله. لقوله تبارك وتعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ..(55) سورة النــور، قال تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ(47) سورة الروم،  فهذه الآية: "نص في تعليل النصر بالإيمان".

ومن العوامل المهمة للنصر: الشجاعة والتضحية، وتقديم النفس رخيصة في سبيل الله، يقول  الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، فأحيا ثم أقتل)6.

أقول لها وقد طارت شعاعاً            من الأعداء: ويحك لن تراعـي

   فإنك إن طلبت بقـاء يومٍ           على الأجل الذي لك لن تطاعي

فصـبراً في مجال الموت صبراً              فمـا نيل الخلود بمستطاعِ

وما ثوب البقاء بثوب عزٍ              فيطوى عن أخي الخنع اليراعِ

وما للمـرء خير في حياة                 إذا ما عد من سقط المتاعِ

لقد كان المسلمون يرون الإقدام على الشهادة حياة، ويقول قائلهم:

فلسنا على العقاب تدمى كلومنا       ولكن على أقدامنا يقطر الدما

وآخر يقول:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً      على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وأن يشاء       يبـارك على أشـلاء شلوٍ ممزعِ

وقال آخر:

     لكنني أسأل الرحمن مغفرة          وطعنة ذات فرع تقذف الزبدا

     حتى يقال: إذا مروا على جدثي       يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا

نسأل الله أن ينصر الإسلام والمسلمين، ويذل الكفر والكافرين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.. أما بعد:

أيها المسلمون:

"إن للنصر صوراً عديدة، وليس النصر محصوراً في انتصار المعارك فحسب، بل قد يقتل النبيّ، أو يطرد العالم، أو يسجن الداعية، أو يموت المجاهد، أو تسقط الدولة، والمؤمنون منهم من يسام العذاب، ومنهم من يلقى في الأخدود، ومنهم من يَستشهد، ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، ومع ذلك يكون كل هؤلاء قد انتصروا، بل وحققوا نصراً مؤزراً وتحقق فيهم قول الله تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ(47) سورة الروم، ومن قَصَرَ معنى النصر على صورة واحدة، وهي الانتصار في المعارك فحسب لم يدرك معنى النصر في الإسلام"7.

وبقاء المبادئ والقيم التي من أجلها ضحى أصحابها، هو من أكبر أنواع النصر، ورسالات الأنبياء باقية وخالدة، على الرغم ما جرى لهم من صنوف الأذى. إن حقيقة النصر: هي أن تبقى متمسكاً بالدين، وإن حقيقة الهزيمة: هي النكوص والردة وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا (البقرة: من الآية217) فكل متمسك بدينه هو منتصر على التحقيق وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(آل عمران:139).

أيها المؤمنون:

"لقد انتصرت كلمة التوحيد من قبل حين سمت أرواح الموحدين فوق حضيض الدنيا، ورضيت بأن تحرق أجسادها في أخدود الكفر لتحلق أرواحها في سماء التوحيد، ولتتعانق في حواصل طير خضر في سماء الجنة.. ولقد انتصرت كلمة الحق من ذي قبل حين قال هابيل: لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) سورة المائدة، وانتصرت كلمة الحق حين قالت امرأة العزيز لنبي الله يوسف: هيتَ لك، فقال الكريم بن الكريم بن الكريم: مَعَاذَ اللّهِ(23) سورة يوسف. وانتصرت كلمة الحق حينما قال سليمان عليه السلام: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) سورة النمل، وانتصر الحق أيضاً يوم أن قذف الله تعالى نور الإيمان في قلوب سحرة فرعون، فإذا أنصار الباطل بالأمس، شهداء الحق اليوم: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70) سورة طـه، ولعل الانتصار قد بلغ ذروته حين استخف المؤمنون الجدد بعذاب الدنيا لما لاقوه من حلاوة الإيمان: قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72) سورة طـه"8.

ومن سنن الله تعالى: أن النصر قد يتأخر، ولو كان أهله مسلمين، وأعداؤهم كفاراً، وذلك لأسباب: لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها. والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه. وقد يتأخر النصر أيضاً: لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون حينئذٍ فقد يجد الباطل له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده، وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة فيشاء الله أن يبقى الباطل مدة من الزمن حتى يتكشف عارياً للناس، وإذا ما ذهب فإنه يذهب غير مأسوف عليه. وقد يتأخر النصر أيضاً: لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصر حينئذٍ للقيت معارضة من البيئة حولها لا يستقر معها قرار، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه، من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله ولا نعلمه نحن قد يتأخر نصر الله، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، وتتضاعف معها الأجور، وفي كل ذلك خير مع دفاع الله عن الذين آمنوا، وتحقيق النصر لهم في النهاية: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ."9

"ونحن المسلمين في هذا العصر لو أخذنا بأسباب النصر، وقمنا بواجب ديننا، وكنا قدوة، لا مقتدين، ومتبوعين لا أتباعاً لغيرنا، وأخذنا بوسائل الحرب العصرية بصدق وإخلاص لنصرنا الله على أعدائنا، كما نصر أسلافنا، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا(23) سورة الفتح، وليبشر المؤمنون عندئذٍ بالنصر القريب، لقوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ(214) سورة البقرة"10. اللهم هيئ لنا من أسباب النصر ما به نصرنا وعزتنا وكرامتنا، ورفعة الإسلام، وذلة أهل الكفر والعصيان، إنك جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 


1 – تفسير الطبري (ج 14 / ص 180)

2 – في ظلال القرآن، لسيد قطب (ج 1 / ص 427)

3 – أضواء البيان للشنقيطي (ج 7 / ص 352)

4 – في ظلال القرآن (ج 1 / ص 342)

5 – أضواء البيان (ج 8 / ص 241)

6 – أخرجه البخاري (ج 22 / ص 178 – 6686) ومسلم (ج 9 / ص 451 – 3484)  واللفظ لمسلم

7 – من موضوع لناصر الأحمد، موقع فتاوى شرعية. بتصرف

8 – من موضوع للدكتور: وسيم فتح الله، موقع مفكرة الإسلام.

9 – في ظلال القرآن (ج 5 / ص 200) بتصرف

10 – مقتبس من موقع سحاب.. بتصرف