حرمة اتخاذ القبور مساجد والمساجد قبوراً

حرمة اتخاذ القبور مساجد والمساجد

حرمة اتخاذ القبور مساجد والمساجد قبوراً

 

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين على أمور الدنيا والدين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فإن الناظر بعين البصيرة إلى كثير من بلدان المسلمين يتأسف؛ لما يرى فيها من تحول المساجد إلى قبور، والقبور إلى مساجد، لاسيما في البلدان الذي انتشرت فيها الخرافة، وعمت البلية، وساد الجهل، وتفشى الشرك، وغابت العقيدة، وأضمحل التوحيد، مما أدى إلى عبادة القبور، والاستغاثة بأهلها، والتوكل عليهم، والالتجاء بهم، ودعاؤهم من دون الله وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ1.

كما يشاهد في الجانب الآخر تحول المساجد إلى معاقل للبدع، ومقابر للأموات، يقبر فيها الأولياء، وتوضع على قبورهم القباب، وتنقش عليها الزخارف، حتى أصبحت كأنها متاحف، فعطلت عن رسالتها، ونسج العنكبوت خيوطه في زواياها، وأصبح الناس يقصدونها من كل مكان لإقامة شتى أنواع البدع فيها، وتحولت القبور إلى مساجد والمساجد إلى قبور.

النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

عن عائشة – رضي الله عنها –  قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت: فلولا ذاك أبرز قبره؛ غير أنه خُشي أن يتخذ مسجدا"ً، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: " وكأنه – صلى الله عليه وسلم-  علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم"، يقول الشيخ عائض القرني – حفظه الله – في كتابه "المسجد مهد الانطلاقة الكبرى": وتحويل القبور إلى مساجد، والمساجد إلى قبور؛ لن يكون إلا إذا ضيعت الأمة رسالتها، ومبادئها، واختل نهجها، واضطربت مسيرتها، عندئذ يتحول المسجد إلى مقبرة، وتنقلب المقبرة إلى مسجد، فيصبح المسجد خاوياً على عروشه لا يؤدي رسالته العظيمة للأمة، فلا حلقات علم، ولا تدريس، ولا وعظ، ولا خطابة، ولا إرشاد، ولا توجيه؛ في حين يصبح القبر مسجداً يغض بالخرافات والبدع والضلالات أ.هـ.

معنى اتخاذ القبور مساجد:

يقول الشيخ الألباني – رحمه الله – في كتابه "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد" الاتخاذ يرجع إلى ثلاثة معان عند أهل العلم:

الأول: الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها.

الثاني: السجود إليها، واستقبالها بالصلاة والدعاء.

الثالث: بناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها.

قال ابن حجر الهيتمي – رحمه الله –: "واتخاذ القبر مسجداً معناه الصلاة عليه أو إليه"2، وقال البيضاوي: لما كانت اليهود يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها؛ فاتخذوها أوثاناً؛ لعنهم الله، ومنع المسلمين عن مثل ذلك، ونهاهم عنه أ.هـ.

ما حكم اتخاذ القبور مساجد؟

إليك مذاهب العلماء في المسألة:

1- مذهب الشافعية أنه كبيرة من الكبائر: قال الفقيه ابن حجر الهيتمي – رحمه الله -: "الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون؛ اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثاناً، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها"3.

2- مذهب الحنفية الكراهة التحريمية: والكراهة بهذا المعنى الشرعي قد قال بها الحنفية فقال الإمام محمد بن الحسن – رحمه الله – تلميذ أبي حنيفة – رحمه الله -: "لا نرى أن يزاد على ما خرج من القبر، ونكره أن يجصص، أو يطين، أو يجعل عنده مسجداً"4، والكراهة عند الحنفية إذا أطلقت فهي للتحريم.

3- مذهب المالكية التحريم: قال القرطبي في تفسيره بعد أن ذكر الحديث الخامس في النهي عن اتخاذ القبور مساجد: قال علماؤنا: "وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد"5.

4- مذهب الحنابلة التحريم: قال ابن القيم – رحمه الله – في كتابه "زاد المعاد" في صدد بيان ما تضمنته غزوة تبوك من الفقه والفوائد، وبعد أن ذكر قصة مسجد الضرار الذي نهى الله – تبارك وتعالى – نبيه – صلى الله عليه وسلم –  أن يصلي فيه، وكيف أنه – صلى الله عليه وسلم – هدمه وحرقه قال: "وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بذلك وأوجب، ومنها – أي الفوائد- أن الوقف لا يصح على غير بر، ولا قربة، كما لا يصح وقف هذا المسجد؛ وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد؛ نص على ذلك الإمام أحمد – رحمه الله – وغيره، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه، وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معاً؛لم يجز، ولا يصح هذا الوقف، ولا يجوز ولا تصح الصلاة في هذا المسجد؛ لنهي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك، ولعنه من اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً، فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه – صلى الله عليه وسلم -".6

وبعد هذا كله يتبين لنا إجماع الأئمة الأربعة على حرمة اتخاذ القبور مساجد، وقد أفتى بهذا العلماء المعاصرين كابن باز – رحمه الله -، فقد سئل: هل تصح الصلاة في المساجد التي يوجد فيها قبور؟ فأجاب قائلاً:

المساجد التي فيها قبور لا يصلى فيها، ويجب أن تنبش القبور، وينقل رفاتها إلى المقابر العامة، يجعل رفات كل قبر في حفرة خاصة كسائر القبور، ولا يجوز أن تبقى في المساجد قبور، لا قبر ولي ولا غيره؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – نهى وحذر من ذلك، ولعن اليهود والنصارى على عملهم ذلك، فقد ثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت عائشة – رضي الله عنها-: "يحذر ما صنعوا"7، وقال – عليه الصلاة والسلام – لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة بكنيسة في الحبشة فيها تصاوير فقال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله))8، وقال – عليه الصلاة والسلام -: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك))9؛ فنهى عن اتخاذ القبور مساجد – عليه الصلاة والسلام -، ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق، فالواجب الحذر من ذلك، ومعلوم أن كل من صلى عند قبر فقد اتخذه مسجداً، ومن بنى عليه مسجداً فقد اتخذه مسجداً، فالواجب أن تبعد القبور عن المساجد، وألا يجعل فيها قبوراً؛ امتثالاً لأمر الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وحذراً من اللعنة التي صدرت من ربنا – عز وجل – لمن بنى المساجد على القبور؛ لأنه إذا صلى في مسجد فيه قبور فقد يزين له الشيطان دعوة الميت، أو الاستغاثة به، أو الصلاة له، أو السجود له، فيقع الشرك الأكبر، ولأن هذا من عمل اليهود والنصارى، فوجب أن نخالفهم، وأن نبتعد عن طريقهم، وعن عملهم السيئ.

لكن لو كانت القبور هي القديمة ثم بني عليها المسجد فالواجب هدمه وإزالته؛ لأنه هو المحدث، كما نص على ذلك أهل العلم؛ حسماً لأسباب الشرك، وسداً لذرائعه.

هنا شبهة يشبه بها عباد القبور وهي وجود قبر النبي – صلى الله عليه وسلم – في مسجده، والجواب عن ذلك: أن الصحابة – رضي الله عنهم – لم يدفنوه في مسجده، وإنما دفنوه في بيت عائشة – رضي الله عنها -، فلما وسع الوليد بن عبد الملك مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – في آخر القرن الأول أدخل الحجرة في المسجد، وقد أساء في ذلك، وأنكر عليه بعض أهل العلم، ولكنه اعتقد أن ذلك لا بأس به من أجل التوسعة، فلا يجوز لمسلم أن يحتج بذلك على بناء المساجد على القبور، أو الدفن في المساجد؛ لأن ذلك مخالف للأحاديث الصحيحة؛ ولأن ذلك أيضاً من وسائل الشرك بأصحاب القبور، والله ولي التوفيق.

اللهم وفقنا لإتباع الحق والصواب، وجنبنا الزيغ والضلال، والحمد لله رب العالمين.


 


1– (فاطر: الآية 13).

2– الزواجر (1/ 121).

3– الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 120).

4– الآثار (ص 45).

5– تفسير القرطبي (10/ 38).

6– زاد المعاد (3/ 22).

7– رواه البخاري برقم (1330) ومسلم برقم (529).

8– رواه البخاري برقم (434) ومسلم برقم ( 528).

9– رواه مسلم برقم (532).