فهزموهم بإذن الله

فهزموهم بإذن الله

فهزموهم بإذن الله

 

الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

لقد قص الله تعالى علينا قصة بني إسرائيل الذين طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً وقائداً ليقاتلوا معه في سبيل الله، وكانت تلك الغزوة والخروج في سبيل الله تمحيصاً لمن معه، ليعلم الله تعالى الصادقين من الكاذبين والمؤمنين من المنافقين، وقد بينا تفاصيل ما جاء في القصة في أحد الدروس، وهنا نكمل بقية الآيات التي تتحدث عن هذه القصة المؤثرة.

يقول الله -تعالى-: فلما فصل طالوت بالجنود أي خرج طالوت بجيشه وجنوده؛ وكان طالوت رجلاً ذكياً عاقلاً؛ لأن الله زاده بسطة في العلم، والجسم؛ وكان عنده علم بأحوالهم من قبل؛ وأنه لما كُتب عليهم القتال بين لهم أن الله مبتليهم بنهر؛ والنهر هو الماء الجاري الكثير؛ فابتلاهم الله -عز وجل- بهذا النهر؛ أولاً: ليعلم من يصبر، ومن لا يصبر؛ لأن الجهاد يحتاج إلى معاناة، وصبر؛ ثانياً: ليعلم من يطيع ممن لا يطيع؛ ولهذا قال لهم الملك طالوت: إن الله مبتليكم بنهر أي ممتحنكم ومختبركم به.

وكان هذا الاختبار والامتحان في أنه من شرب من هذا النهر فليس من طالوت؛ فقال: فمن شرب منه أي كثيراً فليس مني أي فإني منه بريء؛ لأنه ليس على منهجي؛ ومن لم يطعمه أي لم يشرب منه شيئاً فإنه مني أي على طريقي، ومنهجي؛ إلا من اغترف غرفة بيده أي شرب قليلاً مغترفاً بيده -لا بيديه-، وهذا من فضل الله ورحمته بعباده.

ولكن سرعان ما سقط كثير من الناس في هذا الاختبار والامتحان: فشربوا منه أي شرباً كثيراً، ولم ينجح في هذا الاختبار والامتحان إلا قليلاً منهم؛ فلم يشرب كثيراً؛ وقد قيل: إن عددهم ثمانون ألفاً؛ فشرب منهم ستة وسبعون ألفاً -والله أعلم-.

قال بعض المفسرين: "فكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول، وتحصل فيه المشقة الكبيرة". فكيف سيصبر على مقارعة الأعداء في ساحة الوغى من لم يصبر عن تناول شربة ماء؟!!

فكان في هذا تصفية ثانية للصف بعد التصفية الأولى في نكوص كثير من بني إسرائيل في مجاهدة العدو ومقاتلته بعد أن طلبوا ذلك من نبيهم.

ولم يجاوز هذا النهر مع طالوت إلا قليل منهم؛ هم الذين صبروا ونجحوا في هذا الاختبار والامتحان، وحتى هؤلاء الذين جاوزوا النهر مع طالوت، وهم المؤمنون كما أخبر الله عنهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه؛ وهم الذين أطاعوا أمر الله، ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه فرأوا قلتهم وكثرة أعدائهم، قالوا أي قال كثير منهم لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده لكثرتهم وعَددهم وعُددهم، فقال المؤمنون الواثقون بنصر الله لأوليائه: قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله أي يستيقنون ذلك، وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ، مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله أي بإرادته ومشيئته، فالأمر لله –تعالى-، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره، والله مع الصابرين بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله، فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم.

فقد حصل ثلاث تصفيات: التصفية الأولى: نكوص البعض عن القتال بعد طلبهم ذلك. التصفية الثانية: الابتلاء والامتحان بأن مر بهم نبيهم بنهر، وهم عطشى، وأخبرهم بأنه لا يجوز لهم أن يشربوا منه إلا من اغترف منه قليلا بيده فسقط كثير منهم في ذلك، ولم يصبر القليل منهم.

التصفية الثالثة: أن هؤلاء الذين صبروا ولم يشربوا من الماء بعد أن جاوزوا هذا النهر فرأوا أنهم قلة وعدوهم كثرة، سقط البعض منهم فقالوا لا طاقة لنا بهم.

هؤلاء القلة المؤمنة الصابرة هم الذين قاتلوا العدو؛ وانتصروا عليه -بإذن الله تعالى- قال تعالى: ولما برزوا لجالوت وجنوده أي ظهر طالوت، وجنوده ما كان منهم إلا أن سألوا الله أن يصبرهم على الجهاد، وأن يثبتهم على ذلك، وأن لا يتزلزلوا كما تزلزل الكثير ممن كانوا مع طالوت؛ فقالوا كما حكى الله عنهم أنهم: قالوا جميعهم ربنا أفرغ علينا صبرا أي قوِّ قلوبنا، وأوزعنا الصبر، وثبت أقدامنا عن التزلزل والفرار، وانصرنا على القوم الكافرين.

فالإيمان والدعاء والصبر من أسباب النصر، والكفر والمعصية والذنب من أسباب الهزيمة؛ يقول القرطبي معلقاً على هذه القصة: "لكن الأعمال القبيحة، والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو؛ كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدنا!"، وفي البخاري قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "إنما تقاتلون بأعمالكم" وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟)1؛ إلى أن قال القرطبي معلقاً على حال المسلمين في تلك الفترة الذي عاش فيها، وهي فترة ضعف المسلمين في الأندلس، وسقوط مدنهم في أيدي النصارى مدينة بعد مدينة: "فالأعمال فاسدة، والضعفاء مهملون، والصبر قليل، والاعتماد ضعيف، والتقوى زائلة!" قال الله-تعالى-: اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ سورة آل عمران(200)؛ وقال: وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ سورة المائدة(23)؛ وقال: إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ سورة النحل (128)، وقال: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ سورة الحج(40)، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ سورة الأنفال(45)؛ فهذه أسباب النصر وشروطه، وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحلّ بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد، ولكثرة الطغيان، وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقاً وغرباً براً وبحراً، وعمت الفتن، وعظمت المحن، ولا عاصم إلا من رحم؟"2.

فلما توفرت في هذه الفئة المؤمنة مواصفات النصر نصرهم الله على عدوهم؛ قال تعالى: فهزموهم بإذن الله وقتل داود -عليه السلام-، وكان مع جنود طالوت، جالوت أي باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره، وقد ذكروا في كيفية قتله ما لا حاجة إلى ذكره، ولا سند صحيح في إثباته؛ وليس لنا في كيفية قتله كبير فائدة؛ ولذا لم يصف الله –تعالى- لنا القتل؛ فالمقصود قتله، وقد حصل؛ وإذا قُتل -وهو القائد- انهزم الجنود.

بل وآتاه الله أي آتى الله داود الملك فصار ملكاً؛ وآتاه الحكمة فصار رسولاً؛ واجتمع له ما به صلاح الدين والدنيا: الشرع والإمارة؛ ولهذا قال: وعلمه مما يشاء؛ ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم سورة الأنبياء(80). فعلمه الله من العلوم الشرعية والعلوم السياسية، وجمع الله له الملك والنبوة، وقد كان من قبله من الأنبياء يكون الملك لغيرهم، فلما نصرهم الله -تعالى- اطمأنوا في ديارهم وعبدوا الله آمنين مطمئنين لخذلان أعدائهم وتمكينهم من الأرض، وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله، فلو لم يكن لم يحصل ذلك، فلهذا قال تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض "الفساد" ضد "الصلاح"؛ ومن أنواعه ما ذكره الله -تعالى- بقوله: لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً سورة الحج(40)؛ فلولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها، وإقامتهم شعائر الكفر، ومنعهم من عبادة الله –تعالى- وإظهار دينه.

قوله: ولكن الله ذو فضل على العالمين حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها، وأسباب لا يعلمونها.

ثم قال تعالى: تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق أي بالصدق الذي لا ريب فيها المتضمن للاعتبار والاستبصار وبيان حقائق الأمور وإنك لمن المرسلين؛ فهذه شهادة من الله لرسوله برسالته التي من جملة أدلتها ما قصه الله عليه من أخبار الأمم السالفين والأنبياء وأتباعهم وأعدائهم التي لولا خبر الله إياه لما كان عنده بذلك علم بل لم يكن في قومه من عنده شيء من هذه الأمور، فدل أنه رسول الله حقاً ونبيه صدقاً، الذي بعثه بالحق ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

بعض الفوائد المستفادة من الآيات:

في هذه الآيات فوائد وعبر كثيرة، إذا وقف الإنسان المتدبر عندها يأخذ العبر والفوائد الكثيرة؛ من هذه الفوائد ما يلي:

1.    أنه ينبغي للقائد أن يتفقد جنوده؛ وأن يستشيرهم قبل المعركة عن المكان والزمان.

2.  أنه يجب على القائد أن يمنع من لا يصلح للحرب سواء كان مخذلاً، أو مرجفاً، أو ملحداً؛ لقوله تعالى: فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده؛ والفرق بين المخذل، والمرجف: أن المخذِّل هو الذي يخذل الجيش، ويقول: ما أنتم بمنتصرين؛ والمرجف هو الذي يخوف من العدو، فيقول: العدو أكثر عدداً، وأقوى استعداداً… وما أشبه ذلك.

3.  أن من الحكمة اختيار الجند؛ ليظهر من هو أهل للقتال، ومن ليس بأهل؛ ويشبه هذا ما يصنع اليوم، ويسمى بالمناورات الحربية؛ فإنها عبارة عن تدريب، واختيار للجند، والسلاح: كيف ينفذون الخطة التي تعلَّموها؛ فيجب أن نختبر قدرة الجند على التحمل والثبات والطاعة؛ والأساليب الحربية مأخوذة من هذا؛ ولكنها متطورة حسب الزمان.

4.  أن الله –عز وجل- عند الابتلاء يرحم الخلق بما يكون فيه بقاء حياتهم؛ لقوله تعالى هنا: إلا من اغترف غرفة بيده؛ لأنهم لابد أن يشربوا للنجاة من الموت.

5.    أن القليل من الناس هم الذين يصبرون عند البلوى؛ لقوله تعالى: فشربوا منه إلا قليلاً منهم.

6.  أن من حكمة الله -تعالى- تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من الجبان، وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز.

7.  أن اليقين يحمل الإنسان على الصبر، والتحمل، والأمل، والرجاء؛ لقوله تعالى: قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين؛ مع اليقين قالوا هذا القول لغيرهم لما قال أولئك: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده؛ فردوا عليهم.

8.  أنه قد تغلب الفئة القليلة فئة كثيرة بإذن الله؛ وهذا قد وقع فيما سبق من الأمم، ووقع في هذه الأمة مثل غزوة "بدر". وقد تُغلَب الفئة الكثيرة، وإن كان الحق معها، كما في غزوة "حنين"؛ لكن لسبب.

9.    أن الوقائع والحوادث لا تكون إلا بإذن الله، وهذا يشمل ما كان من فعله تعالى وفعل مخلوقاته؛ لقوله تعالى: بإذن الله.

10.     أن من تمام العبودية أن يلجأ العبد إلى ربه عند الشدائد؛ لقوله تعالى: ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً.

11.           اضطرار الإنسان إلى ربه في تثبيت قدمه على طاعة الله؛ لقوله تعالى: وثبت أقدامنا.

12.     أن الله –عز وجل- يدفع الناس بعضهم ببعض لتصلح الأرض ومن عليها؛ لقوله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض؛ وفساد الأرض يكون بالمعاصي وترك الواجبات؛ لقوله تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون سورة الروم(40)، وقوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير سورة الشورى(30).

13.     أن من الفساد في الأرض هدم بيوت العبادة؛ لقوله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً سورة الحج(40)؛ ومنع ذكر الله فيها، أو تمجيد الطاغوت فيها، أو دعوة الناس فيها إلى الشركيات والبدع.

14.     إثبات فضل الله -تعالى- على جميع الخلق؛ لقوله تعالى: ولكن الله ذو فضل على العالمين؛ حتى الكفار؛ لكن فضل الله على الكفار فضل في الدنيا فقط بإعطائهم ما به قوام أبدانهم؛ أما في الآخرة فيعاملهم بعدله بعذابهم في النار أبد الآبدين؛ وأما بالنسبة للمؤمنين فإن الله يعاملهم بالفضل في الدنيا والآخرة.

15.     إثبات رسالة النبي وإثبات أن هناك رسلاً آخرين غير الرسول-صلى الله عليه وسلم-؛ لقوله: لمن المرسلين. ولكنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين؛ إذ لا نبي بعده3. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..


 


1 رواه أحمد وأبو داود، والترمذي والنسائي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(3206).

2 انظر: الجامع لأحكام القرآن(3/239).

3 راجع: تفسير القرآن العظيم (1/406)، والجامع لأحكام القرآن (3/239- 249)، ومعالم التنزيل(301- 308) للبغوي، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(108)، وتفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.