الإجهاض
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وصلى على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً.. أما بعد:
عباد الله:
إن شريعة الله المطهرة قد أتت بكل ما فيه سعادة الإنسان وفلاحه لو اتبعها وسار عليها، ولم تدع مجالاً من مجالات الحياة إلا وكان لها فيه القدم الصدق، والقول الفصل؛ سواء بالنص الجلي، أم بالعموميات التي لا تخرج عنها مجمل الحوادث في الكون، وهذا مصداق قوله تعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ (38) سورة الأنعام.
وإن من المسائل التي أكدت شريعة الله تعالى على حرمتها حرمة إزهاق النفس المؤمنة التي لم تبح قتلها إلا بحق شرعي منصوص عليه.
ومن المسائل التي قد يقع فيها أو لا يقع فيها قتل النفس ما يسمى بالإجهاض.
أيها المسلمون:
إن”الإجهاض(1) في وقتنا الحاضر مشكلة منتشرة بشكل رهيب في العالم أجمع… والإحصائيات التي نشرت في العالم الغربي مخيفة، فعلى سبيل المثال:
1. تقدر حالات الإجهاض بأكثر من خمسين مليون حالة في العالم، وقد نتج عنها أكثر من مائتي ألف حالة لوفاة الأمهات.
2. في الولايات المتحدة الأمريكية تجري حالة إجهاض واحدة مقابل كل ثلاث ولادات طبيعية، وبلغ عدد حالات الإجهاض في الولايات المتحدة مليون وستمائة ألف حالة سنة 1973م.
3. 89% من حالات الإجهاض كانت بسبب حمل غير شرعي.
4. في البرتغال وإسبانيا مليون حالة إجهاض كل سنة.
5. في مدينة مانيلا عاصمة الفلبين مئة ألف حالة إجهاض سنوياً.
6. وفي العالم العربي والإسلامي الإجهاض موجود ومنتشر، ولكن لم يتم الاطلاع على أية إحصائيات.
والإجهاض من العوامل المساعدة على انتشار الزنا بشكل كبير، وعلى الرغم من انتشار وسائل منع الحمل المختلفة تتم هذه الأعداد الكبيرة من عمليات الإجهاض.
ففي الولايات المتحدة ثلث طالبات المدارس الثانوية يحملن من زنا، ويوجد عيادات لمنع الحمل في المدارس، ويتم تدريس وسائل منع الحمل للفتيات، ومع ذلك فالإجهاض في ارتفاع مستمر.
ومن الأمور البدهية أن الإسلام اعتبر النفس البشرية معصومة، وحافظ عليها، بل حفظ النفس إحدى الضرورات الخمس، قال الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ سورة الأنعام (151).
والجنين داخل في ذلك، ومن المعروف أن النبي ﷺ لم يقم الحد على المرأة التي جاءت معترفة بالزنا لأنها حامل، وأخر إقامة الحد إلى أن وضعت حملها، وأرضعته ثم فطمته.
ومن المعلوم عند العلماء أن للجنين أهلية وجوب وإن كانت ناقصة تثبت له بعض الحقوق المعروفة عند الفقهاء، وقد أوجبت الشريعة الإسلامية العقوبة المالية على من أسقط الجنين كما ورد في الحديث الصحيح: “أن امرأتين من هذيل ضربت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى فيه النبي ﷺ بغرة عبد أو أمة”.(2) ويقدر ذلك بـ 50% من الدية، وأوجب جماعة من الفقهاء الكفارة على من تسبب في إسقاط الجنين.
أيها المسلمون:
لقد اتفق الفقهاء على حرمة الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين أي بعد انقضاء أربعة أشهر على الحمل (120) يوماً، كما هو مذهب أكثر العلماء في أن الروح تنفخ في البدن بعد هذه المدة، وعلى هذا يدل حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقةً مثلَ ذلك، ثم يكون في ذلك مضغةً مثلَ ذلك، ثم يُرسَلُ الملَك فينفُخ فيه الروح، ويُؤمَرُ بأربع كلمات: بكتبِ رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
ومعظم الفقهاء يمنعون الإجهاض في هذه الحالة مطلقاً، واستثنى بعضهم حالة واحدة من هذا المنع وهي: إذا تأكد وثبت أن استمرار الحمل يشكل خطراً أكيداً على حياة الأم فأجازوا إجهاض الحمل مهما كان عمر الجنين.
والحقيقة أن هذا الاستثناء وجيه، لأنه عند الموازنة بين حياة الأم وحياة الجنين تقدم حياة الأم لأنها أصله وهو فرع لها، والفرع لا يكون سبباً في إعدام الأصل.
فالإجهاض في هذه المرحلة يُعد جريمةً محرمةً ولا يُستباح هذا الحرام إلا في حالة الضرورة فقط.
أما الإجهاض قبل الأربعة أشهر فهو محل خلاف بين أهل العلم، والمسألة محل اجتهاد لأنه لا يوجد نصوص شرعية صريحة في المسألة، لذا تعددت أقوال العلماء فيها:
فمنهم من رأى أنه يجوز الإجهاض خلال هذه المدة بشرط موافقة الزوجين، ومنهم من يرى جوازه مع الكراهة، ومنهم من أجازه قبل الأربعين يوماً الأولى، وكرهه بعدها، ومنهم من أجازه قبل الأربعين يوماً الأولى وحرّمه بعدها.
ومنهم من حرّمه مطلقاً أي بمجرد وقوع المني في الرحم، وثبوت العلوق، وهذا هو القول المعتمد عند المالكية، وهو قول الإمام الغزالي ومن تابعه من الشافعية، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض الحنابلة، وجماعة آخرين من أهل العلم من الظاهرية والشيعة وغيرهم.
وهذا القول هو الذي اختاره جماعة من العلماء المعاصرين كالشيخ محمود شلتوت، والشيخ القرضاوي، والشيخ وهبة الزحيلي، واختاره مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة، وعليه عدد كبير من العلماء المعاصرين، وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة.
إذن لا يجوز الإجهاض قبل 120 يوماً إلا لعذر شرعي مقبول، ومن تلك الأعذار تشوه الجنين تشوهاً خطيراً أكيداً.
وعلى كل حال فإن الإجهاض قبل الأربعة الأشهر الأولى أخف منه بعدها؛ لأن المسألة هنا محل اختلاف بين العلماء بخلاف الأخرى فهي متفق عليها.
عباد الله: وأما إجهاض الجنين المشوه؛ فإن معرفة تشوهات الجنين من القضايا المستجدة في الطب، وعلم الطب تقدم تقدماً ملحوظاً في معرفة أسباب التشوهات لدى الجنين كالفحص بالموجات فوق الصوتية، وبالمنظار، وإجراء فحوصات الدم للمرأة الحامل، وللجنين أيضاً، وغير ذلك من الوسائل.
فما الحكم الشرعي في إسقاط الجنين المشوه؟
أولاً: لا بد أن نقول – وعلى قاعدة درهم وقاية خير من قنطار علاج – إن الإسلام يحث على الوقاية من الأسباب التي تؤدي إلى تشوه الجنين، وينبغي الأخذ بهذه الأسباب، كامتناع الحامل عن التعرض للأشعة، والامتناع عن استخدام الأدوية والعقاقير التي قد ينتج عنها تشوه الجنين.
كما أن الإسلام قد حثَّ على حفظ الصحة، والبعد عن الزنا وشرب الخمر، وتناول المخدرات والتدخين، وغير ذلك من الأمور التي قد تؤدي إلى إلحاق الضرر بصحة الأم والجنين.
كما أن حسن اختيار الزوجة له دور في ذلك كما في قوله ﷺ : (تخيروا لنطفكم) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح، وكذلك تغريب النكاح على رأي جماعة من العلماء والأطباء له دور في ذلك، وكذلك فإن إجراء فحص للخاطبين قبل الزواج قد يفيد في ذلك.
إن اتباع هدي الإسلام هو الطريق الأمثل في الوقاية من التشوهات وغيرها من الأمراض، فخطوة الوقاية خطوة هامةً جداً لمنع التشوهات، ولكن إذا قدّر الله سبحانه وتعالى تشوه الجنين لسبب أو لآخر فما هو الموقف الشرعي من ذلك؟
أولاً: يقول الأطباء أن هناك نسبةٌ معينةٌ من التشوهات يمكن للجنين أن يعيش معها بعد الولادة، وبعض هذه التشوهات يمكن إصلاحها بعد الولادة مثل تشوهات المعدة والأمعاء.
وهناك تشوهاتٌ خطيرةٌ لا يُرجى معها للجنين حياة بعد الولادة، فهو سيموت قطعاً عند الولادة أو بعيدها مباشرة.
هذا كلام الأطباء، ولا بد من ملاحظة أنه لا زالت إلى يومنا هذا وعلى الرغم من تقدم العلم والطب مشكلةٌ في دقة تشخيص التشوهات بشكل موثوق تماماً.
وبناءً على هذا التقسيم للتشوهات يمكن أن نقول: إنه إذا كانت نسبة احتمال حصول تشوه الجنين عالية، وكان الجنين لا يمكن أن يعيش؛ فإنه يجوز إسقاطه ما دام الحمل ضمن الأربعة أشهر الأولى أي قبل 120 يوماً بمعنى آخر قبل نفخ الروح.
أما إذا أظهرت الفحوصات التشخيصية أن هنالك تشوهات في الجنين من الأنواع التي لا تؤثر على حياة الجنين، أو كانت التشوهات يمكن إصلاحها بعد الولادة، أو يمكن للجنين أن يعيش مع وجود تلك التشوهات؛ فلا يجوز إسقاط الجنين ضمن المئة والعشرين يوماً أي أربعة أشهر.
وهذا القول عليه كثير من علماء العصر، وأخذ به مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة.
وينبغي التنبيه على أنه يجب أن تقرر حقيقة التشوهات – قبل القيام بإسقاط الجنين – لجنة طبية مختصة لا يقل عدد أعضاءها عن ثلاثة، ولا يكفي قول طبيب واحد مهما بلغ من العلم، وخاصة أنه قد ثبت في حالات عديدة خطأ الطبيب في التشخيص.
فينبغي على المسلمين مراعاة الحرمات التي يستوجب مجاوزتها العقوبة العاجلة والآجلة، نسأل الله تعالى أن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وأن يثبتنا عليه حتى نموت على ذلك، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وسار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
إن الإجهاض لغير عذر شرعي جريمة كبيرة، وقتل لنفس معصومة، وخاصة إذا كان بعد الأربعة الأشهر الأولى.
وتوجد أحكام تترتب على الإجهاض(3):
“فكل الفقهاء متفقون على وجوب الغُرَّة “عبد أو أمة” في إلقائه ميتاً بجناية عليه من أمه أو من غيرها، مع اختلاف في بعض التفاصيل.
فالحنفية قالوا: تجب الغرة على العاقلة، وإن أسقطه غيرها أو أسقطته هي عمداً بدون إذن زوجها، فإن أذن أو لم تتعمد فلا غرة، ولو أمرت الحامل غيرها بإسقاطه فلا ضمان على المأمورة بل على الحامل إذا لم يأذن الزوج، والعاقلة هم أقارب الجاني.
والشافعية قالوا: فيه غرة لكل جنين، والظاهرية قالوا: إن كان قبل تمام الأشهر الأربعة ففيه الغرة دون كفارة، وإن كان بعدها ففيه الاثنتان، ومن تعمدت قتل جنينها بعد الأشهر الأربعة، أو تعمد قتله أجنبي؛ ففيه القود (القصاص بالقتل)، وصرح الإباضية بوجوب الغرَّة.
هذا وقد أفتت لجنة الفتوى بالأزهر بجواز الإجهاض للمرأة في الشهر الأول خشية وراثة مرض خبيث، بشرط ألا يعرض المرأة للخطر.
ولا يجوز أن تمارس عمليات الإجهاض لغير الضرورة كالتي ذكرها الدكتور محمد عبد الحميد مدير مستشفى الملك “المنيرة” سنة 1935م من أن المرأة إذا كانت مريضة بالسل الرئوي الذي يزيده الحمل والوضع، وينتقل إلى الجنين، أو بالالتهاب الكلوي الذي يعرِّض للتسمم البولي لإضراب الكليتين عن العمل، ويشتد خطر الالتهاب إن صاحبه ارتشاح في الجسم، أو بالبول السكري الذي لا يوجد له دواء، أو لا يفيده “الأنسولين”، أو كانت مريضة بالقلب، أو ضعف القوى العقلية، أو الاضطرابات النفسية، أو بالقيء الكثير الذي يخاف منه على الحامل إذا كان مصحوبًا بزلال في البول أو بحمى أو بنزف. انتهى.
وإذا كان الحمل من زنا وأجاز الشافعية إجهاضه؛ فإنه يكون في حالة الإكراه أو ما شابهها حيث يكون الإحساس بالندم والألم النفسي، أما عند الاستهانة بالأعراض وعدم الحياء من الاتصال الجنسي الحرام فلا يجوز الإجهاض، لأن فيه تشجيعًا على الفساد، وإن كان منتشرًا في كثير من البلاد غير الإسلامية، ولذا حرمته بعض القوانين، ثم رفعت الحظر عنه لممارسته فعلاً، وعالجت بعض الأولاد غير الشرعيين.4
فينبغي على كل مسلم معرفة الأحكام الشرعية التي تتعلق بالإجهاض، فلا يجوز لمسلم أن يقدم على عمل من الأعمال إلا على بينة من الشرع وبصيرة، وإلا كان ممن اتبع هواه، وكان أمره فرطاً.
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يصرف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 الكلام الآتي للدكتور حسام الدين عفانه، الأستاذ المشارك في الفقه والأصول، كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة القدس. نقلاً عن موقع/ يسألونك. بشيء من التصرف..
2 رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن.
3 ما سيأتي من كلام مقتطع من فتوى للشيخ عطية صقر.. بشيء من التصرف للحاجة.
4 فتاوى الأزهر (ج 9 / ص 454) المفتي عطية صقر. مايو 1997م.