مسؤولية الإمام والمأموم

مسؤولية الإمام والمأموم

 مسؤولية الإمام والمأموم

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه، أمـا بعد:

فإن من حدود ما أنزل الله على رسوله حدود صلاة الجماعة؛ حيث حد للإمام والمأموم فيها ما لم يكن محدوداً في حالة الانفراد، وكل واحد منهما مسؤول عما يختص به.

فمن مسؤوليات الإمام أن يحرص على إكمال الصلاة، بحيث تكون مثل صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه رضي الله عنهم، فإنها أتم صلاة وأخفها،كما قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة، ولا أتم صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.

فالإمام لو صلى وحده لكان له الخيار بين أن يقتصر على أقل واجب في الصلاة، وبين أن يفعل أعلى مطلوب فيها، ولكنه إذا صلى بالجماعة، لم يكن مخيراً في ذلك، بل يجب عليه أن يراعي من خلفه بحيث يتمكنون من فعل أدنى الكمال في صلاتهم؛ لأنه لا يصلي لنفسه فحسب، وإنما يصلي لنفسه ولمن خلفه، فليتق الله فيهم، ولا يحرمهم من فعل أدنى الكمال خلفه، وإن ترقى إلى أن تكون صلاته كصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو أكمل وأطيب.

ومن مسؤوليات الإمام أيضاً أن يحرص على إقامة الصفوف وتسويتها بالقول وبالفعل إذا لم يفد القول، فيأمرهم بتسوية الصفوف وإقامتها، ويؤكد ذلك عليهم، ويتوعدهم على مخالفتها، ويسويها بيده إن لم ينفع ذلك، كما كان نبينا وإمامنا وقدوتنا يفعل ذلك، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ)، وفي رواية (مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ)2، ولأبي داود: (رُصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ)3، وله من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَقِيمُوا الصُّفُوفَ فَإِنَّمَا تَصُفُّونَ بِصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا فِي أَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ)، يعني الفضاء بين الرجلين، فإن الشيطان يدخل فيه من بين أهل الصف، قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ)4.

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجهه، فقال: (أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا)5.

وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسوي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رآنا أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوماً، فقام حتى كاد يكبر، فرأى رجلاً بادياً صدره من الصف، فقال: (عِبَادَ اللَّهِ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ)6، أي: بين قلوبكم كما في رواية لأبي داود7.

وهذا وعيد شديد على من لا يسوون الصفوف أن يخالف الله بين قلوبهم، فتختلف وجهات نظرهم، وتضيع مصالحهم بسبب اختلافهم.

وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا، ويقول: (لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)8.

وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال : "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسوي -يعني صفوفنا- إذا قمنا للصلاة، فإذا استوينا كبر"9.

وهنا لفتة في قوله: "فإذا استوينا كبر" إذ هذه الجملة الشرطية صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم لا يكبر للصلاة، حتى تستوي الصفوف، ولقد أدرك ذلك الخلفاء الراشدون والأئمة المتبعون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففي الموطأ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كان يأمر بتسوية الصف، فإذا جاؤوه، فأخبروه أن قد استوت كبر، وكان قد وكل رجالاً بتسوية الصفوف.

وقال مالك بن أبي عامر كنت مع عثمان بن عفان، فقامت الصلاة، وأنا أكلمه يعني في حاجة، حتى جاء رجال كان قد وكلهم بتسوية الصفوف، فأخبروه أن الصفوف قد استوت، فقال لي: استو في الصف، ثم كبر10.

فهذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين لا يكبرون للصلاة حتى تستوي الصفوف، أفليس من الجدير بنا أن يكون لنا فيهم أسوة أن نأمر بتسوية الصفوف وإقامتها؟ وأن ننتظر فلا نكبر للصلاة حتى نراهم قد استووا على الوجه المطلوب؟ وأن لا نخشى في ذلك لومة لائم، أو تضجر متضجر؟

لكن مع الأسف أن كثيراً من الأئمة -فتح الله علينا وعليهم- لا يولي هذا الأمر عناية، وغاية ما عنده أن يقولها كلمة على العادة استووا اعتدلوا، فلا يشعر نفسه بالمقصود منها، ولا يبالي من خلفه بها، ولا يأتمرون بها، تجده يقول ذلك وهم باقون على اعوجاجهم، وتباعد بعضهم من بعض، ولو أن الإمام شعر بالمقصود، ونظر إلى الصفوف بعينه، وانتظر حتى يراهم قد استووا استواء كاملاً ثم كبر لبرئت ذمته وخرج من المسؤولية.

هذه بعض من مسؤوليات الإمام في إمامته..

أما المأموم فإنه لو كان يصلي وحده لكان مخيراً بين أن يقتصر على أدنى واجب في صلاته، أو أن يطول فيها، ولكنه إذا كان مع الإمام، فقد ارتبطت صلاته بصلاة إمامه، فلا يجوز أن يتقدم على الإمام بالتكبير، ولا القيام ولا القعود ولا الركوع ولا السجود، ولا يأتي بذلك مع الإمام أيضاً، وإنما يأتي به بعده متابعاً له، فلا يتأخر عنه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ، أَوْ لَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ؟ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ)11.

وقال أيضاً -عليه الصلاة والسلام- : (إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ)12.

ومن مسؤوليات المأموم المحافظة على تسوية الصفوف، وأن يحذر من العقوبة على من لم يسوها ، وأن يحافظ على المراصة فيها، وسد خللها، والمقاربة بينها، ووصلها بتكميل الأول فالأول، وأن يحذر من عقوبة قطع الصفوف، فإن من قطع صفاً قطعه الله.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا)13، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا)14.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ)15، ورأى في أصحابه تأخراً، فقال لهم: (تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ)16.

فهل ترضى أيها المسلم لنفسك أن تكون في شر الصفوف وهو آخر الصفوف مع تمكنك من أولها؟ هل ترضى لنفسك أن تعرضها للعقوبة بالتأخر عن مقدم الصفوف، حتى يؤخرك الله في جميع مواقف الخير؟

هل ترضى لنفسك أن لا تصف بين يدي ربك كما تصف الملائكة عند ربها يتراصون في الصف، ويكملون الصفوف المقدمة؟

ما من إنسان يرضى لنفسه بذلك إلا وقد رضي لها بالخسران، فتقدموا أيها المسلمون إلى الصفوف، وأكملوا الأول فالأول، وتراصوا فيها، وتساووا بأيدي إخوانكم، إذا جذبوكم لتسوية الصف أو التراص فيها لتتموا صلاتكم، وتمتثلوا أمر نبيكم، وتقتفوا أثر سلفكم الصالح، ومن وجد الصف تاماً، ولم يجد له مكاناً فيه، فليصل خلفه، ولا حرج عليه، ومن صلى وحده خلف الصف، وهو يجد مكاناً فيه، فلا صلاة له.

وإذا اجتمع ثلاثة، فصلى بهم أحدهم، فليتقدم عليهم، وإذا كانوا يصلون على بساط ونحوه لا يتسع لتقدم الإمام عليهم، فليصلوا صفاً واحداً، ويكون الإمام بينهما مساوياً لهما أحدهما عن يمينه، والثاني عن يساره.

وإذا اجتمع اثنان، وأرادا الصلاة جماعة صلى الإمام عن يسار المأموم والمأموم عن يمينه مستويين لا يتقدم الإمام عن المأموم لا قليلاً، ولا كثير17.

هذه بعض المسؤوليات التي يجب على الإمام والمأموم أن يتنبها لها حيث أنها من ركائز ومتممات إقامة الصلاة في جماعة إقامة صحيحة تامة، وهي مما لا ينبغي الجهل بها، بل يجب تعلمها وتعليمها.

ونسأل الله -جل وعلا- أن ينفعنا جميعاً بما نسمع ونقرأ، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه البخاري(676) ومسلم (469).

2 رواه البخاري(690) ومسلم (433).

3 رواه أبو داود (667) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3505).

4 رواه أبو داود (666) وأحمد (5724) واللفظ له، وصححه الألباني في الصحيحة (743).

5 رواه البخاري(687).

6 رواه مسلم بهذا اللفظ (436) ورواه البخاري مختصراً (685).

7 سنن أبي داود (662) وهو صحيح كما في صحيح الجامع (1191).

8 رواه مسلم (432) وأبو داود (675).

9 رواه أبو داود (665) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (619).

10 رواه مالك في الموطأ (374) والبيهقي في السنن (2126).

11 رواه البخاري (659) ومسلم (427) واللفظ للبخاري.

12 رواه البخاري (689) ومسلم (414).

13 رواه البخاري (624) ومسلم (437).

14 رواه مسلم (440).

15  رواه أبو داود (671) وأحمد (13464) وصححه الألباني في صحيح الجامع (122).

16 رواه مسلم (438).

17 مستفاد من كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع لابن عثيمين.