القاتل والمقتول في النار (الثأر)

 

 

القاتل والمقتول في النار (الثأر)

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئاتأعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، في السماء ملكه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر عظمته، وفي الجنة رحمته، وفي النار سطوته، وفي كل شيء آيته وحكمته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: لقد خلق الله بني آدم وكرمه، كما قال تعالى: وَلَقَدْكَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ سورة الإسراء(70). ومن تكريمه لله له أنه أمر الملائكة أن تسجد لأبي البشر آدم -عليه السلام-، كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ سورة البقرة(34).

ثم إن الله سبحانه خص من آمن به وبرسوله ودينه الذي ارتضاه وهو الإسلام، بمزيد من المكانة والعظمة والحرمة، ولذلك فقد حرم الله التعرض لهذا الإنسان ولكل ما يتصل به بأي نوع من أنواع الأذى، فقال  : (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)1. فكما أنه لا يحل إيذاء المسلم في عرضه بالانتهاك والانتقاص وغير ذلك، فكذلك لا يحل سفك دمه وإهراقه بغير إذن شرعي ولا التسبب في ذلك، بل إن دم المسلم من أعظم وأجل ما ينبغي أن يُصان ويُحفظ، قال القرطبي -رحمه الله-: “والدماء أحق ما احتيط لها؛ إذ الأصل صيانتها في أهبها، فلا نستبيحها إلا بأمرٍ بين لا إشكال فيه”2.

أيها الناس: لقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بتعظيم شأن قتل النفس المعصومة بغير حق، والتحذير من ذلك، بل وبالوعيد لمن يقدم على ذلك أو يحاول أن يقدم على فعل ذلك، ومن هذه النصوص قوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًاسورة النساء (93). قال الإمام العلامة عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-: “وذكر هنا وعيد القاتل عمداً وعيداً ترجف له القلوب، وتنصدع له الأفئدة، وينزعج منه أولو العقول، فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزءاه جهنم،أي فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجنهم بما فيها من العذاب العظيم، والخزي  المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار، فيا عياذاً بالله من كل سبب يُبعد عن رحمته. وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار، أو حرمان الجنة”3..

وقال تعالى في وصف عباده المتقين: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا سورة الفرقان(68-69-70). فتأمل كيف قرن الله بين قتل النفس بغير حق بالشرك به، وذلك بياناً لفداحة هذا الذنب!.

فإياك قتل النفس ظلماً لمؤمن فذلك بعد الشرك كبرى التفسد

أيها الناس: لقد بين النبي   أن القتل بغير حق كبيرة من كبائرالذنوب، فعن أبي هريرة عن النبي   قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق…)4. الحديث.. بل جاء في الحديث أن النبي تبرأ ممن يحمل السلاح على أخيه؛ فعن ابن عمر–رضي الله عنهما- عن النبي   قال: (مَن حمل علينا السلاح فليس منا)5.. فإذا كان هذا فيمن حلم السلاح فقط، فكيف بمن يصوبه فيقتل به نفساً معصومة..

 

وقد أكد النبي   على حرمة مال وعرض ودم المسلم في خطبته الشهيرة خطبة الوداع؛ فعن أبي بكرة –رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله  يوم النحر، فقال: (أي يوم هذا؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه،قال (أليس يوم النحر) قلنا بلى يا رسول الله،ثم قال (أي شهر هذا) قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه قال (أليس ذو الحجة؟) قلنا: بلى، قال: (أتدرون أي بلد هذا؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه، فقال: (أليس بالبلدة؟) قلنا: بلى، قال: (فإن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا، وفي شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟) قالوا: نعم، قال: (اللهمّ اشهد، ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغٍ أوعى من سامع، ألا فلا ترجعُن بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)6.

أمة محمد: لقد نظر ابن عمر إلى الكعبة حيث الجمال والجلال والكمال والهيبة والحرمة فقال: “ما أعظمك! وما أشد حرمتك، ووالله للمسلم أشد حرمة عند الله منك”. وقال ابن عمر: “إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله”7. وعند البخاري أيضاً عن ابن عمر قال: قال رسول الله  : (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً). وأعظم من ذلك كله ما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي   قال: (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني حتى يدنيه من العرش).8 فماذا عسى أن يكون الجواب عند سؤال الله تعالى؟!.

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي   قال: (يجيء المقتول متعلقاً بقاتله يوم القيامة آخذاً رأسه بيده، فيقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني؟ قال فيقول: قتلته لتكون العزة لفلان، قال: فإنها ليست له بؤ بإثمه، قال: فيهوى في النار سبعين خريفاً)..9

ألا فليتق الله من آمن بالله واليوم الآخر أن يقع في دماء المسلمين المحرمة، وليعلم أن التهاون بها اليوم حسرة وندامة في الدنيا والآخرة..

اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونعوذ بك من شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن.. اللهم اغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشانه، والصلاة والسلام على محمد خير داع إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد:

أيها الناس: إن من الظواهر المنتشرة في بعض المجتمعات، ظاهرة الثأر، تلك الظاهرة التي تعد من أبشع الجرائم وأشنعها، ومن أسوأ الظواهر وأخطرها على الفرد والمجتمع..

نعم -يا عباد الله- إن هذه الظاهرة إذا تفشَّت في مجتمع أو انتشرت في بيئة أوردت أهلها موارد الهلاك، ذلك أنها تفتح أبواب الشر، وتحوّل حياة الناس إلى صراعات لا تنتهي.

فهي عادة من العادات السيئة، ومن بقايا الجاهلية التي كانت منتشرة في الناس قبل الإسلام، ذلك أن هذه الظاهرة تؤدي إلى قتل النفس بغير حق، بل لمجرد أن فلاناً من قبيلة معينة يقتل أي شخص حصل عليه من تلك القبيلة، وهذا يؤدي إلى الفساد العريض، فيقتل البرئ ويترك المجرم القاتل، وهكذا تكثر الصراعات والنزاعات في المجتمعات وخاصة المجتمعات القبلية.

فلما أشرق الإسلام بتعاليمه السمحة، قضى على هذه الظاهرة، وشرع القصاص، حيث يطبق بالعدل، ويقوم به ولي الأمر، وليس آحاد الناس حتى لا تكون الحياة فوضى.

وكما قيل:

لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم ولا سُراة إذا جُهالهم سادوا

فالحذر الحذر عباد الله من التساهل في حرمات الله وحرمات خلقه، والبعد  كل البعد عن الأقوال والأفعال والنيات التي تغضب الله -عز وجل-.

 

ثم لنتعظ ونعتبر بحال تلك المجتمعات التي تكثر فيها هذه الظاهرة المقيتة فلقد سُفكت فيها الدماء البريئة، وهُتكت الأعراض المصونة، واقتُحمت المنازل، وبُقرت بطون الحوامل، وقُتلت الأطفال، وحصل السلب والنهب، والفرقة والاختلاف، والخوف والاضطراب-نسأل الله أن يحفظنا بحفظه..

اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، ووفقنا لامتثال أمرك، واجتناب نهيك. اللهم يا من لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من غفلتنا، ووفقنا لمصالحنا، واعصمنا من قبائحنا، ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا من أنواع القبائح والمصائب التي تعلمها منا.

اللهم وفقنا لتعظيم حرماتك، وارزقنا برك وإحسانك، وعمنا جميعاً بفضلك ورحمتك.

اللهم وفقنا لقول الحق واتباعه، وخلصنا من وساوس قلوبنا الحاملة على التورط في هوة الباطل وابتداعه، واجعل إيماننا إيماناً خالصاً صادقاً، وكن لنا مؤيداً وناصراً، ولا تجعل لفاجر علينا يداً، واجعل عيشنا عيشاً رغداً، ولا تشمت بنا عدواً ولا حاسداً، وارزقنا في محبتك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وعملاً متقبلاً.

اللهم يا من كان مع يونس في لجج البحار، ومع إبراهيم في النار، ومع محمد   في الغار، كن مع المجاهدين حيث كانوا، وانصرهم ووفقهم واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن فوقهم ونعوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين..

 


1 رواه مسلم.

2 الجامع لأحكام القرطبي(5/312)

3 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(193)

4  رواه البخاري ومسلم.

5 رواه البخاري ومسلم.

6 رواه البخاري ومسلم.

7 رواه البخاري.

8 رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني.

9 رواه النسائي، وصححه الألباني.