سكرة الموت

سكـرة المـوت

الحمد لله رب العالمين، الذي خلق الإنسان وإليه يعود، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. اعلم – أخي الكريم – أن للموت سكرات وأي سكرات؟! قال تعالى: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (سورة ق:19). وصح عنه  أنه قال: إن للموت سكرات1 وقد قيل: “إن الموت أشد من ضرب بالسيوف، ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض”2.

إن كنا نحن أبناء الموتى، وأن الله نعى إلينا نبينا ، ونعانا إلى أنفسنا، فما منا من أحد إلا وهو يحمل أصل شهادة وفاته، وما يستخرج له من شهادة بعد وفاته إن هي إلا صورة من تلك الشهادة: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (سورة الزمر:30)، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (سورة العنكبوت:57) التي هي توقيع بخراب الدنيا كما قال الحافظ ابن الجوزي؛ نعى رجلٌ لرجلٍ أخاه وقد وجده يتغدى، فقال: ادنُ تغدَّ، فقد نُعِيَ إليَّ أخي من قبل؛ فتعجب الرجل من نعاه إليه وهو أول قادم؟ فتلا عليه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ، وأرواحنا عارية في أجسادنا، ولا بد لصاحب العارية من ردها وقبضها. ألم تعلم أخي الكريم أن إسرافيل ملتقم بوقه للنفخة الأولى قبل حين؟ وأن الساعة كادت أن تسبق بعثة سيد المرسلين؟ وأن أعمار هذه الأمة تتراوح بين الستين والسبعين، وقليل من يجاوز ذلك؟ فقد صحَّ عنه  أنه قال: أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين، وقليل من يجاوز ذلك3، وقال: أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة4، وروي عنه أنه قال: معترك المنايا بين الستين إلى السبعين5، وفي هذا المعترك قُبض النبي ، قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله  فليتخذ لنفسه كفناً؛ وقال وهب بن الورد: إن لله ملكاً ينادي في السماء كل يوم وليلة: أبناء الخمسين زرع دنا حصاده، أبناء الستين هلموا إلى الحساب، أبناء السبعين ماذا قدمتم؟ وماذا أخرتم؟ وأبناء الثمانين لا عذر لكم.

قال الفضيل بن عياض – رحمه الله – لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة؛ قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ؛ فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ فقال الفضيل: من علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع؛ فليعلم أنه موقوف، وأنه مسؤول، فليعد للمسألة جواباً؛ فقال الرجل: ما الحيلة؟ قال: يسيرة؛ قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأتَ فيما بقي أخذتَ بما مضى وبقي. وأنت أخي الشاب لا تأمن مكر الله، ولا تأمن الموت، ولا تظنن أنك في أمان منه، فقد يموت الصغير، ويعمر الشيخ الكبير، ويهلك الصحيح، ويصحُّ المريض؛ فكم من صغير دفنتَ، وشاب وشابة واريتَ؟ وكم من عروس قبرتَ؟ وشيخ عجوز عاصرتَ؟ فقد مات أبناء وبنات رسول الله  كلهم قبله إلا فاطمة، ومات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قبله، هذا على سبيل المثال لا الحصر. ولله در الإمام أبي إسحاق الألبيري حيث قال يعظ ابنه أبا بكر، ويحثه ويحضه على طلب العلم، والاستعداد للدار الآخرة في قصيدته التي مطلعها:

تفتُّ فـؤادك الأيــامُ فتـا وتنحتُ جسمك الساعات نحتاً
 وتدعـوك المنونُ دعاء صدق ألا يـا صاح أنتَ أريد أنتَ

قال مذكراً ابنه أن الموت ليس قاصراً على الكبار دون الصغار:

ولا تقل الصبا فيه امتهـال وفكر كم صغيـر قد دفنتَ

كان آخر خطبة خطبها العبد الصالح، والإمام العادل، والخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز – رحمه الله -، أن قال فيها: “إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتودعونه، وتدعونه في صدع من الأرض، غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنياً عما خلف، فقيراً عما أسلف، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت، وانقضاء مواقيته، وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، ولكن أستغفر الله، وأتوب إليه؛ ثم رفع طرف ردائه، وبكى حتى شهق، ثم نزل، فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه”.6

فالحذر الحذر أخي الكريم من الغفلة، وطول الأمل، وحب الدنيا، وكراهية الموت، فهذه أدواء مضلة، وأمراض مذلة، وأماني مخلة، فالعاقل من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، واعلم أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، واحرص أن لا يكون يقينك بوعد الله وبالمغيبات شبيهاً بالشك سيما الموت قال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله -: “لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت، موقنون أنه حق، ولكن لا يعملون له”؛ فمن كد وجد، ومن زرع حصد، ومن اجتهد نجح، ومن عمل أفلح. واعلم أن دوام الحال من المحال، فاليوم في الدور وغداً في القبور، واتق ليلة فجرها يوم القيامة، واعمل لدار السلامة، ولا تعجز فتكون في دار الندامة، فليس هناك إلا داران قال القحطاني – رحمه الله – في نونيته:

يوم القيامـة لـو علمتَ بهوله لفررتَ من أهل ومن أوطان
يومٌ تشققت السمـاءُ لهـولـه وتشيب فيه مفـارقُ الولـدان
يوم عبـوسٌ قمطريـرٌ  شـرُّه في الخلق منتشـر عظيم الشان
والجنة العليـا ونـار جهنـم داران للخصمين دائمتــان
يوم يجيء المجـرمون إلى لظى يتلمظون تلمظ العطشــان

فكن أخي الكريم من الكيِّسين، عباد الله الفطنين، ولا تكن من المغرورين المخدوعين .. نسأل الله أن يغفر لنا ويرحمنا في الدنيا والآخرة، إنه غفور رحيم.7


1 رواه البخاري.

2 ذكره الغزالي في الإحياء، والإشبيلي في العاقبة في ذكر الموت.

3 رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.

4 رواه البخاري.

5 رواه البيهقي وأبو يعلى، وحسنه الألباني.

6 من كتاب لطائف المعارف، لابن رجب، وإحياء علوم الدين، للغزالي، والعاقبة في ذكر الموت، للإشبيلي.

7 عن موقع صيد الفوائد، بتصرف.