موضع الأذان والإقامة

 

 

 

 

موضع الأذان والإقامة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، وعلى آله وأصحابه وجنده، أمابعد:

سيكون الحديث عن الموضع الذي يرفع منه الأذان، والموضع الذي تقام فيه الصلاة، حيث سيتم استعراض كلام أهل العلم حول ذلك: 

أولاً: موضع الأذان:

اتفق الفقهاء على أنه يستحب أن يكون الأذان من فوق مكان مرتفع كالمنارة، أو سطح المسجد، ونحوهما، واستدلوا على ذلك بأدلة منها:

أولاً من السنة:

1-     حديث عروة بن الزبير   عن امرأة من بني النجار قالت: “كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن عليه الفجر”1.

2-     ما جاء في رواية عبد الله بن زيد – رضي الله عنه – للأذان، وفي بعض الروايات قال:”…رأيت في المنام كأن رجلاً قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط فأذّن…”2.

3-     ما جاء في حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي قال: (إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) قال: “ولم يكن بينهماإلا أن ينزل هذا ويرقى هذا”3.

وجه الدلالة من الحديث:

يدل قوله : “ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا” على أنهما يؤذنان على مكان مرتفع؛ لأنه ذكر النزول والارتقاء، وهذا لا يكون إلا في المرتفع من المكان.

4-ما روي عن أبي برزة الأسلمي   قال: ” من السنة الأذان في المنارة والإقامة في المسجد”4.

ثانياً: من المعقول:

أن الأذان من مكان مرتفع أبلغ في الإعلام، وهو المقصود الأعظم من الأذان.

الأذان داخل المسجـد:

تقدم نقل اتفاق الفقهاء على أن المستحب أن يكون الأذان من فوق مكان مرتفع كالمنارة وسطح المسجد ونحوهما، فإن أّذن المؤذن من داخل المسجد فما الحكم؟

هذه المسألة لم يتعرض لها إلا القلة من الفقهاء منهم الإمام ابن الحاج حيث قال:يمنع من الأذان من جوف المسجد لوجوه:

أحدهما: أنه لم يكن من فعل من مضى.

الثاني: أن الأذان إنما هو نداء للناس ليأتوا إلى المسجد، ومن كان فيه فلا فائدة لندائه لأن ذلك تحصيل حاصل، ومن كان في بيته فإنه لا يسمعه من المسجد غالباً.

الثالث: أن الأذان في المسجد فيه تشويش على من هو فيه يتنفل أو يذكر.واستثنى من ذلك أن يكون الأذان للجمع بين الصلاتين فذلك جائز في جوفه.

وقال ابن حجر الهيتمي وقد سئل عن الأذان وسط المسجد: “وإذا أذن وسط المسجد فإن كان نيته أن يؤذن لنفسه أو للمقيمين في المسجد فقط كفاه إسماع نفسه في الأولى، وإسماع الحاضرين في الثانية، وأما إذا كان يؤذن لأهل البلد فلا بد من أن يؤذن في محل مرتفع بصوت عال بحيث يسمعه من أصغى إليه من أهل البلد،…والذي ورد عن بلال وغيره من مؤذنيه   أن من أراد منهم الأذان لإسماع الناس كان يؤذن على موضع عال”5.

وقال الإمام الشاطبي في معرض حديثه عن الأذان بين يدي الإمام في الجمعة: “… ولا ثبت أن الأذان بالمنار أو في سطح المسجد تعبد غير معقول المعنى، فهو الملائم من أقسام المناسب، بخلاف نقله من المنار إلى ما بين يدي الإمام، فإنه قد أخرج بذلك أولاً عن أصله من الإعلام؛ إذ لم يشرع لأهل المسجد إعلام بالصلاة إلا بالإقامة،وأذان جمع الصلاتين موقوف على محله”6.

فعلم بهذا أن الأذان من داخل المسجد خلاف السنة إلا إذا كان لإسماع الحاضرين، ولكن مع وجود مكبرات الصوت في العصر الحاضر التي توزع على المواضع المرتفعة في المسجد كالمنارة وسطح المسجد، ويكون لاقط الصوت داخل المسجد؛ فإن الأذان من داخل المسجد في هذه الحالة لا يكون فيه مخالفة للسنة.

ويرى بعض المعاصرين عدم مشروعية الأذان من داخل المسجد أمام مكبر الصوت، وينكرون على من فعله، وعللوا ذلك بالوجوه التي تقدم ذكرها عن ابن الحاج، وقالوا أيضاً: “إن الأذان في المسجد أمام المكبر يمنع ظهور المؤذن بجسمه؛ فإن ذلك من تمام هذا الشعار الإسلامي العظيم؛ لذلك نرى أنه لابد للمؤذن من البروز على المسجد، والتأذين أمام المكبر….، ومن فائدة ذلك أنه قد تنقطع القوة الكهربائية، ويستمر المؤذن على أذانه وتبليغه إياه إلى الناس من فوق المسجد، بينما هذا لا يحصل والحالة هذه إذا كان يؤذن في المسجد كما هو ظاهر”7.

ولا مسوغ معتبر لهذا الإنكار، أو وصف الفعل بعدم المشروعية؛ لأن الأذان أمام مكبر الصوت من داخل المسجد وسيلة لأمر مطلوب شرعاً – وهو إبلاغ الأذان للناس – وللوسائل أحكام المقاصد، وهذا جواب عن الوجهين الأول والثاني المنقولين عن ابن الحاج.

وأما الوجه الثالث وهو أن الأذان في المسجد فيه تشويش على من هو فيه، فقد اتفق الفقهاء على أنه ينبغي لسامع الأذان أن لا يشتغل بقراءة القرآن، ولا بشيء من الأعمال، ولو كان في القراءة فينبغي أن يقطع ويشتغل بالاستماع والإجابة.

وقد وردت أسئلة للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية حول من ينكر على المؤذن إذا أذن داخل المسجد، واعتبار هذا الفعل بدعة؛ فكان الجواب ما يلي:

“لا ينبغي الإنكار على المؤذن إذا أذن داخل المسجد؛ لأننا لا نعلم دليلاً يدل على الإنكار عليه8.

وقالوا أيضاً: “ليس الأذان في الميكرفون في المسجد بدعة لا لصلاة الجمعة ولا لغيرها من الصلوات الخمس المفروضة، بل هو من نعم الله – سبحانه – على المسلمين؛ لما حصل به من الإعانة على إبلاغ الأذان، والدعوة إلى الله سبحانه”9.

ثانياً: موضع الإقامة:

اختلف الفقهاء في الموضع الذي يستحب أن يقيم فيه المؤذن الصلاة، هل المستحب أن يكون في موضع الأذان، أو يستحب أن يتحول منه إلى غيره؟ في المسألة قولان:

القول الأول:

أنه يستحب أن يتحول من موضع أذانه إلى موضع غيره للإقامة، وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، ورأي لبعض الحنابلة.

القول الثاني:

أنه يستحب أن يقيم في موضع أذانه وهو قول الحنابلة، قالوا: إلا أن يشق عليه، كمن يؤذن في المنارة، أو مكان بعيد من المسجد، فيقيم في غير موضع؛ لئلا يفوته بعض الصلاة.

أدلة القول الأول:

أولاً: من السنة:

ما ورد في حديث عبد الله بن زيد   في صفة الأذان وفيه: “… ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر،…”10.

وجه الدلالة:

أن قوله “استأخر عني غير بعيد” يدل على أن المستحب أن تكون الإقامة في غير موقف الأذان.

ثانياً: من المعقول:

أنه يستحب أن يقيم في موضع صلاته؛ وذلك ليلحق التأمين مع الإمام.

أدلة القول الثاني:

أولاً من السنة:

1-ما روي عن بلال   أنه قال: “يا رسول الله لا تسبقني بـآمين”11.

وجه الدلالة:

أن قوله هذا لا يكون إلا لبعد موضع الإقامة عن موضع الصلاة؛ إذ لو كان يقيم في موضع صلاته لما خاف أن يسبقه بالتأمين.

2- عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال: “إنما كان الأذان على عهد رسول الله   مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، غير أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فإذا سمعنا الإقامة توضأنا ثم خرجنا إلى الصلاة”12.

وجه الدلالة:

قوله: ” فإذا سمعنا الإقامة” يدل على أن الإقامة من موضع الأذان؛ إذ لو كانت داخل المسجد لم يسمعها.

ثانياً: من المعقول:

1- أن الإقامة شرعت للإعلام فهي مشروعة في موضع الأذان؛ ليكون أبلغ في الإعلام.

2-أن الإقامة تابعة للأذان، فالمستحب أن تكون في مكانه كالصلاة الثانية من صلاتي الجمع، وكالخطبتين.

الترجـيح:

الراجح – والله أعلم – هو قول الجمهور بأن يستحب للمؤذن أن يتحول من موضع الأذان إلى موضع غيره للإقامة؛ وذلك لما يلي:

1-   قوة الأدلة، وسلامتها من المعارضة.

2-  ما استدل به أصحاب القول الثاني من حديث بلال: “لا تسبقني بـآمين” يناقش من وجهين:

الوجه الأول: أن في سنده مقالاً.

الوجه الثاني: أنه لو صحَّ فإنه ليس بصريح الدلالة على ما ذهبوا إليه؛ وذلك لأنه يحتمل معناه أن بلالاً   كان يقرأ بفاتحة الكتاب في السكتة الأولى من السكتتين، فربما بقي عليه الشيء منها، وقد فرغ رسول الله  من قراءة فاتحة الكتاب؛ فاستمهله بلال في التأمين مقدار ما يتم فيه بقية السورة؛ حتى يصادف تأمينه تأمين رسول الله  .

3- ما استدل به أصحاب القول الثاني من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – ليس بصريح الدلالة على أن الإقامة  في موضع الأذان، فقد تسمع الإقامة من داخل المسجد لاسيما إذا كان المقيم جهوري الصوت، وكان الهواء من جهة السامع.

4- قياس الإقامة على الأذان قياس مع الفارق؛ لأن الأذان إعلام لمن هو خارج المسجد،بخلاف الإقامة فإنها إعلام لمن هو داخل المسجد.

5-  قياس الأذان والإقامة على الخطبة قياس أيضاً مع الفارق لما تقدم، ولأن الخطبة تكون لمن بداخل المسجد.

6-   قال الإمام المرداوي13 عن مذهب الجمهور: “وعليه العمل في جميع الأمصار والأعصار”14.

ويلاحظ أنه في العصر الحاضر مع وجود مكبرات الصوت فإن المؤذن يؤذن ويقيم داخلالمسجد15.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه أبو داود وصححه ابن حجر في الفتح.

2 رواه أحمد في مسنده (22080) والبيهقي في سننه (1829) وابن أبي شيبة في مصنفه (2118) وقال الألباني في الثمر المستطاب: “إسناده في غاية الصحة”.

3 رواه البخاري (597) ومسلم (1092) وهذا لفظ مسلم.

4  رواه البيهقي وهو حديث منكر لم يروه غير خالد بن عمرو وهو ضعيف منكر الحديث. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2331) من كلام التابعي: عبد الله بن شقيق.

5  الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (1/188-189).

6 كتاب الاعتصام للشاطبي (2/310).

7  الأجوبة النافعة للألباني ص 18 – 19 المسجد في الإسلام لخير الدين وائلي ص 252 – 253 ، والقول المبين في أخطاء المصلين لمشهور حسن ص 178 – 179 دار ابن القيم، ودار ابن حزم 1426هـ.

8  فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 8/199 رقم الفتوى 2601.

9  المصدر السابق 8/200 فتوى رقم 5069.

10 رواه أبو داود (499) وصححه الألباني (469) كما في تحقيق سنن أبي داود.

11 رواه أبو داود (937) وأحمد (23929) وضعفه الألبانيكما في تحقيق سنن أبي داود (198).

12 رواه أبو داود (510) والنسائي (668) وأحمد (5569) وحسنه الألبانمي في تحقيق سنن أبي داود (482).

13– هو: أبو الحسن علي بن سليمان بن أحمد بن محمد المرداوي السعدي، ثم الصالحي الحنبلي، الإمام العلامة المحقق، شيخ الحنابلة، ولد سنة 817هـ بمردا ونشأ بها، ثم تحول إلى دمشق، من كتبه: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، والتحرير في أصول الفقه وغيرها، توفي سنة 885هـ. (شذرات الذهب 7/340، الضوء اللامع للسخاوي 5/225-227).

14– الإنصاف 1/389.

15  كتاب أحكام الأذان والنداء والإقامة ل(سامي الحازمي).