إنشاد الضالة في المسجد

إنشاد الضالة في المسجد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

المساجد بيوت الله ​​​​​​​، المكان الذي ترفع فيه الدعوات، المكان الذي تلجأ إليه القلوب فراراً من نصب الدنيا، وضجيج الحياة، حيث السكينة والوقار، حيث الأريحية والاستقرار، حيث اللقاء بالأبرار.

لكن من الناس من أراد تعكير هذا الجو فأدخل ما ليس منه فيه، وأخرج المسجد عن المسار الذي يسير فيه، فكان لا بد من وقفة مع هؤلاء العابثين نرفع عنهم الجهل، ونبعدهم عن ما هم فيه من العبث، ونهديهم طريق تعظيم شعائر الله ​​​​​​​ .

إن بيوت الله – تعالى – عظيمة، وما وجدت إلا لتكون خالصة لله ​​​​​​​ قال – تعالى –: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا 1، فالمساجد لله، لا يذكر فيه إلا الله – تعالى – وما والاه، لا إنشاداً للضالة، ولا بيعاً ولا شراءً، ولا الضجيج ولا الإزعاج، بل قد نهى النبي  عن رفع الصوت حتى بالقرآن الكريم – إن كان رفع الصوت مما يؤذي المصلين – فعن أبي سعيد الخدري  قال: اعتكف رسول الله  في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة2 فكيف بمن يرفع صوته ببيع أو شراء، أو إنشاد ضالة؟! ولوقوع كثير من الناس في مثل هذا الخطأ أحببنا أن نسلط الضوء على مسألة إنشاد الضالة في المسجد، وما يدخل فيها فعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا3 “(ينشد ضالة) يقال: نشدت الضالة إذا طلبتها، وأنشدتها إذا عرفتها، والضالة: هي الضائعة من كل ما يقتني من الحيوان وغيره يُقال: ضل الشيء إذا ضاع، قال ابن الأثير: الضالة فاعلة صارت من الصفات الغالبة، تقع على الذكر والأنثى، والاثنين والجمع، وتجمع على ضوال، وقد تطلق الضالة على المعاني ومنه الحديث “الحكمة ضالة المؤمن” أي لا يزال يتطلبها كما يتطلب الرجل ضالته”4، وعن بريدة  أن رجلاً أنشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر، فقال رسول الله  : لا وجدت، إنما بُنِيَت المساجد لما بُنِيَت له5، فمن هذه النصوص يتجلى لنا بوضوح عدم جواز إنشاد الضالة في المسجد؛ قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى -: “في هذين الحديثين فوائد منها: النهي عن نشد الضالة في المسجد”. وقد بيَّن النبي  العلة في ذلك أن المساجد ما بنيت لهذا بل لما بنيت له، قال ملا علي القاري – رحمه الله تعالى -: “بُنِيَت لما بُنِيَت له أي من الصلاة، وذكر الله، والتلاوة، ونحوها”6، بنيت للدعوة إلى الله – تعالى-؛ بنيت لنشر العلم؛ بنيت لحلقات التحفيظ، ويجب علينا أن نترك ما نهانا عنه نبينا وإن لم نعلم العلَّة.

فنعلم أن المساجد لا بد أن تنزه من كل ما يشوش رسالتها، ويصرفها عن مقصدها، وقد يحصل إشكال عند بعضهم في أن المنهي عنه إنشاد الضالة إذا كانت حيواناً؛ لأن ذلك هو الذي نص عليه الحديث؛ فالجواب أن كل شيء حسي يطلق عليه ضالة لا يجوز إنشاده مثل: بطاقة، أو جواز سفر أو غير ذلك.

ولكن إذا كان الضائع إنساناً فهل يجوز إعلان ذلك في المسجد كغلام، أو طفل، أو شاب، أو شيخٍ، أو إنسانٍ؟ فالجواب هو أنه لا يجوز أيضاً إنشاد هذه الضوال لعموم النهي عن إنشاد الضالة في المسجد، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء7. ويدخل في النهي أيضاً استخدام شيء من المسجد في إنشاد الضالة كاستخدام مكبرات الصوت الخاصة بالمسجد، أو تعليق ورقة داخل المسجد فيها الإعلان عن مفقود، وبهذا أفتى العلَامة ابن باز – رحمه الله تعالى -، وقال: “أما إنشاد الضوال من طريق مكبر الصوت في المسجد فلا يجوز ولو كان قصد القرية، سواءً قصد القرية، أو أهل المسجد ما دام في المسجد فلا يجوز لعموم الحديث …” إلى أن قال: “أما إذا كان المكبر خارج المسجد في بيت خارج المسجد، أو في محل خارج المسجد؛ فهذا أمر معلوم، ولا حرج في ذلك أن ينشد الضالة، ويطلب من المسلمين أن يفيدوه عن حاجته، وأما كتابة ورقة تعلق في المسجد فهذا إن كانت في الجدار الخارجي فلا بأس، أو على الباب الخارجي فلا بأس، وأما من الداخل فلا ينبغي؛ لأن هذا يشبه في الكلام؛ ولأنه قد يشغل الناس من مراجعة الورقة وقراءتها، فالذي يظهر أنه لا يجوز في المسجد أن يعلق ورقة في المسجد معناها نشد الضوال، ولكن إذا كتب على الجدار الخارجي من ظهر المسجد، أو على الباب من خارج المسجد؛ فلا بأس بهذا”8.

وبهذا علمنا كيف أن بيوت الله ​​​​​​​ لابد أن تصان عن كل ما يفسد جوها الإيماني، ويذهب أنسها وسكينتها.

والحمد لله رب العالمين.


1 سورة الجن 18.

2 سنن أبي داود.

3 صحيح مسلم.

4 صحيح مسلم بتعليق محمد فؤاد عبدالباقي.

5 صحيح مسلم

6 شرح مسند أبي حنيفة

7 الفتوى رقم (13369).

http://www.binbaz.org.sa/mat/17434-8