يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم

يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم

يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم

 

الحمد لله الذي جعل القرآن الكريم إماماً وهدى للناس، وبينه بلسان عربي مبين لا عوج فيه ولا التباس، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن القرآن الكريم حجة الله في أرضه على الإنس والجن، وهو حبله المتين، وصراطه المستقيم الذي من تمسك به نجا وفاز، ومن أعرض عنه هلك وخسر خسراناً مبيناً، وإن الله – تعالى- قد أمر بأخذ القرآن وتعلمه لأنه لا معرفة للعبد بأمور دينه وفرائض شريعته إلا بتعلمه وأخذه عن أهل الله وخاصته، وإن مما يجب على كل مسلم؛ العمل به، ولا يكفي تلاوته من دون تدبر وعمل وإلا كان مذموماً، فكم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه بسبب مخالفته لما يتلوه ليلاً ونهاراً.

وسنقف في موضوعنا هذا مع حديث من أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – يبين فيه أن قوماً من أمته يقرؤون القرآن ولا يجاوز تراقيهم (والتراقي جمع ترقوة، وهي العظم الذي بين الجنب والرقبة)، ومعنى ذلك أنه لا أجر لهم ولا ثواب ولا ينفعهم، ومثلهم كمثل من لم يقرؤه، نسأل الله أن يرحمنا في الدنيا والآخرة.

 

نص الحديث:

عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: "بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا؛ أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ! فَقَالَ: (وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ) فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: (دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ – وَهُوَ قِدْحُهُ – فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ) قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الَّذِي نَعَتَهُ".1

 

غريب الحديث:

(لا يجاوز تراقيهم) جمع تَرقوة "بالفتح" وهي العظم بين النحر والعاتق، وهو كناية عن عدم القبول، والصعود في موضع العرض، وقال النووي معناه: أن قوماً يقرؤون وليس حظهم من القرآن إلا مروره على اللسان، فلا يجاوز تراقيهم ليصل قلوبهم، وليس ذلك هو المطلوب بل المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب.

(يمرقون من الدين) أي يخرجون منه، والمروق عند أهل اللغة الخروج يقال: مرق من الدين مروقاً خرج ببدعة أو ضلالة، ومرق السهم من الغرض إذا أصابه ثم نقره، ومنه قيل للمرق مرق لخروجه.

قوله: (الرميَّة) الطريدة المرمية، فعيلة بمعنى مفعولة، يقال: شاة رميٍّ: إذا رميت، ويقال: بئس الرمية الأرنب. فيدخل الهاء".

قوله: (القذذ) ريش السهم، كل واحدة قذة، وقال ثابت: قذتا الجناحين: جانباه، وقال أبو حاتم: القذتان: الأذنان، وأما النضي: فإن أبا عمرو الشيباني قال: هو نصل السهم، وقال الأصمعي: هو القدح قبل أن ينحت، فإذا نحت فهو مخشوب.

والحديث يدل أن القول قول الأصمعي؛ لأنه ذكر النصل قبل النضي في الحديث.

قوله: (يسبق الفرث والدم) يعنى أنه مرَّ مراً سريعاً في الرمية وخرج، ولم يعلق به من الفرث والدم شيء، فشبه خروجهم من الدين ولم يتعلق منه شيء بخروج ذلك السهم.

وقوله: (تدردر) يعنى تضطرب، تذهب وتجئ، ومثله تذبذب، وتقلقل، وتزلزل، ومنه دردور الماء".2

قوله: (آيتهم) أي علامة خروجهم.

 

شرح الحديث:

قوله "بينما النبي – صلى الله عليه وسلم – يقسم" وفي رواية "يوم حنين"، وكان المقسوم تبراً (أي ذهباً) بعثه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – من اليمن، فقسمه النبي – صلى الله عليه وسلم – بين أربعة أنفس.

وذو الخويصرة التميمي قال عنه ابن حجر: "وأكثر ما جاء ذكر هذا القائل في الأحاديث مبهماً، ووصف في رواية عبد الرحمن بن أبي نعم المشار إليها بأنه مشرف الوجنتين، غائر العينين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار".

وفي حديث أبي بكرة عند أحمد والطبري "فأتاه رجل أسود طويل، مشمر محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود" وفي رواية: " أتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بدنانير فكان يقسمها ورجل أسود مطموم الشعر بين عينيه أثر السجود"، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند البزار والطبري "رجل من أهل البادية حديث عهد بأمر الله".

قوله (فقال: اعدل يا رسول الله)، في رواية: "فقال: اتق الله يا محمد" وفي حديث عبد الله بن عمرو فقال: "اعدل يا محمد" وفي لفظ له عند البزار والحاكم "فقال: يا محمد!! والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما أراك تعدل"، وفي رواية مقسم "فقال: يا محمد قد رأيت الذي صنعت، قال: وكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلت" وفي حديث أبي بكرة "فقال: يا محمد والله ما تعدل"، وفي لفظ "ما أراك عدلت في القسمة" ونحوه في حديث أبي برزة.

قوله (ومن يعدل إذا لم أعدل) في رواية عبد الرحمن بن أبي نعم (ومن يطع الله إذا لم أطعه)، ولمسلم من طريقه "أو لست أحق أهل الأرض أن أطيع الله"، وفي حديث عبد الله بن عمرو "عند من يلتمس العدل بعدي"، وفي رواية مقسم عنه "فغضب – صلى الله عليه وسلم – وقال: العدل إذا لم يكن عندي فعند من يكون؟!"، وفي حديث أبي بكرة "فغضب حتى احمرت وجنتاه"، ومن حديث أبي برزة "قال فغضب غضباً شديداً، وقال: والله لا تجدون بعدي رجلاً هو أعدل عليكم مني".

قوله (قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه)، في رواية مسلم من طريق جرير عن عمارة بن القعقاع بسنده: "فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، ثم أدبر فقام إليه خالد بن الوليد سيف الله فقال: يا رسول الله أضرب عنقه؟ قال: لا" فهذا نص في أن كلاً منهما سأل.

قوله (فإن له أصحاباً) هذا ظاهره أن ترك الأمر بقتله بسبب أن له أصحاباً بالصفة المذكورة، وهذا لا يقتضي ترك قتله مع ما أظهره من مواجهة النبي – صلى الله عليه وسلم – بما واجهه، فيحتمل أن يكون لمصلحة التأليف كما فهمه البخاري لأنه وصفهم بالمبالغة في العبادة مع إظهار الإسلام، فلو أذن في قتلهم لكان ذلك تنفيراً عن دخول غيرهم في الإسلام، ويؤيده رواية أفلح ولها شواهد، ووقع في رواية أفلح "سيخرج أناس يقولون مثل قوله".

قوله: (يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم) أي أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها، وقيل لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على قراءته، فلا يحصل لهم إلا سرده، وقال النووي: المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب، قلت: وهو مثل قوله فيهم أيضاً: "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم" أي ينطقون بالشهادتين ولا يعرفونها بقلوبهم، ووقع في رواية لمسلم "يقرؤون القرآن رطباً" قيل المراد الحذق في التلاوة، أي يأتون به على أحسن أحواله، وقيل المراد أنهم يواظبون على تلاوته فلا تزال ألسنتهم رطبة به.

قوله (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) والرمية فعيلة من الرمي، والمراد الغزالة المرمية مثلاً، وفي رواية "فإنه سيكون لهذا شيعة يتعمقون في الدين يمرقون منه" الحديث، أي يخرجون من الإسلام بغتة كخروج السهم إذا رماه رام قوي الساعد فأصاب ما رماه فنفذ منه بسرعة بحيث لا يعلق بالسهم ولا بشيء منه من المرمي شيء، فإذا التمس الرامي سهمه وجده ولم يجد الذي رماه، فينظر في السهم ليعرف هل أصاب أو أخطأ، فإذا لم يره علق فيه شيء من الدم ولا غيره ظن أنه لم يصبه، والفرض أنه أصابه، وإلى ذلك أشار بقوله: "سبق الفرث والدم" أي جاوزهما ولم يتعلق فيه منهما شيء بل خرجا بعده، كذلك هؤلاء لم يتعلقوا بشيء من الإسلام.

قوله: (يخرجون على خير فرقة من الناس)

وفي رواية: "يخرجون على فرقة مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق"، وفي رواية أنس عن أبي سعيد عند أبي داود "من قاتلهم كان أولى بالله منهم".

قال ابن حجر: "وأما صفة قتالهم وقتلهم فوقعت عند مسلم في رواية زيد بن وهب الجهني أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي حين ساروا إلى الخوارج، فقال علي بعد أن حدث بصفتهم عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، قال: فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم: ألقوا الرماح، وسلوا سيوفكم من جفونها فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، قال: فشجرهم الناس برماحهم، قال: فقتل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان، وأخرج يعقوب بن سفيان من طريق عمران بن جرير عن أبي مجلز قال: كان أهل النهر أربعة آلاف، فقتلهم المسلمون ولم يقتل من المسلمين سوى تسعة، فإن شئت فاذهب إلى أبي برزة فاسأله فإنه شهد ذلك، وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل فقلت: أخبرني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي فيم فارقوه، وفيم استحل قتالهم؟ قال: لما كنا بصفين استحر القتل في أهل الشام، فرفعوا المصاحف فذكر قصة التحكيم، فقال الخوارج ما قالوا، ونزلوا حروراء، فأرسل إليهم علي فرجعوا، ثم قالوا: نكون في ناحيته فإن قبل القضية قاتلناه، وإن نقضها قاتلنا معه، ثم افترقت منهم فرقة يقتلون الناس، فحدث علي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بأمرهم، وعند أحمد والطبراني والحاكم من طريق عبد الله بن شداد أنه دخل على عائشة مرجعه من العراق ليالي قتل علي، فقالت له عائشة: تحدثني بأمر هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، قال: إن علياً لما كاتب معاوية وحكما الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس، فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وعتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله، ومن اسم سماك الله به، ثم حكمت الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله، فبلغ ذلك علياً فجمع الناس فدعا بمصحف عظيم فجعل يضربه بيده ويقول: أيها المصحف حدث الناس، فقالوا: ماذا إنسان؟ إنما هو مداد وورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فقال: كتاب الله بيني وبين هؤلاء، يقول الله في امرأة رجل: (فإن خفتم شقاق بينهما..) الآية، وأمة محمد أعظم من امرأة رجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية وقد كاتب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سهيل بن عمرو، ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، ثم بعث إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع منهم أربعة آلاف فيهم عبد الله بن الكواء، فبعث علي إلى الآخرين أن يرجعوا فأبوا، فأرسل إليهم: كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دماً حراماً، ولا تقطعوا سبيلاً، ولا تظلموا أحداً، فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب، قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدم الحرام.. الحديث، وفي الأوسط للطبراني من طريق أبي السائغة عن جندب بن عبد الله البجلي قال: لما فارقت الخوارج علياً خرج في طلبهم، فانتهينا إلى عسكرهم فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن، وإذا فيهم أصحاب البرانس أي الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة، قال: فدخلني من ذلك شدة، فنزلت عن فرسي، وقمت أصلي فقلت: اللهم إن كان في قتال هؤلاء القوم لك طاعة فائذن لي فيه، فمر بي علي فقال لما حاذاني: تعوذ بالله من الشك يا جندب، فلما جئته أقبل رجل على برذون يقول: إن كان لك بالقوم حاجة فإنهم قد قطعوا النهر، قال: ما قطعوه ثم جاء آخر كذلك، ثم جاء آخر كذلك قال: لا ما قطعوه ولا يقطعونه، وليقتلن من دونه عهد من الله ورسوله، قلت: الله أكبر، ثم ركبنا فسايرته، فقال لي: سأبعث إليهم رجلا يقرأ المصحف يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيهم فلا يقبل علينا بوجهه حتى يرشقوه بالنبل، ولا يقتل منا عشرة، ولا ينجو منهم عشرة، قال: فانتهينا إلى القوم فأرسل إليهم رجلاً، فرماه إنسان، فأقبل علينا بوجهه فقعد، وقال علي: دونكم القوم فما قتل منا عشرة، ولا نجا منهم عشرة.

وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح عن حميد بن هلال قال حدثنا رجل من عبد القيس قال: لحقت بأهل النهر، فإني مع طائفة منهم أسير إذ أتينا على قرية بيننا نهر، فخرج رجل من القرية مروعاً فقالوا له: لا روع عليك، وقطعوا إليه النهر، فقالوا له: أنت ابن خباب صاحب النبي – صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قالوا: فحدثنا عن أبيك، فحدثهم بحديث يكون فتنة فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فكن، قال: فقدموه فضربوا عنقه، ثم دعوا سريته وهي حبلى فبقروا عما في بطنها!!، ولابن أبي شيبة من طريق أبي مجلز لاحق بن حميد قال: قال علي لأصحابه: لا تبدؤوهم بقتال حتى يحدثوا حدثاً، قال: فمر بهم عبد الله بن خباب فذكر قصة قتلهم له وبجاريته، وأنهم بقروا بطنها، وكانوا مروا على ساقته فأخذ واحد منهم تمرة فوضعها في فيه، فقالوا له: تمرة معاهد فيم استحللتها؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: أنا أعظم حرمة من هذه التمرة، فأخذوه فذبحوه، فبلغ علياً فأرسل إليهم: أقيدونا بقاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، فأذن حينئذ في قتالهم، وعند الطبري من طريق أبي مريم قال أخبرني أخي أبو عبد الله أن علياً سار إليهم حتى إذا كان حذاءهم على شط النهروان أرسل يناشدهم، فلم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسوله، فلما رأى ذلك نهض إليهم فقاتلهم حتى فرغ منهم كلهم.

قوله: (جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي – صلى الله عليه وسلم -)، وفي رواية زيد بن وهب فقال علي: التمسوا فيهم المخدج، فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض، قال: أخروهم، فوجده مما يلي الأرض فكبر، ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله، وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع "فلما قتلهم علي قال: انظروا، فنظروا فلم يجدوا شيئاً، فقال ارجعوا فوالله ما كَذبت ولا كُذِّبت مرتين أو ثلاثاً، ثم وجدوه في خربة، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه" أخرجها مسلم، وفي رواية للطبري من طريق زيد بن وهب: "فقال علي: اطلبوا ذا الثدية، فطلبوه فلم يجدوه، فقال: ما كذبت ولا كذبت، اطلبوه فطلبوه، فوجدوه في وهدة من الأرض عليه ناس من القتلى، فإذا رجل على يده مثل سبلات السنور، فكبر علي والناس، وأعجبه ذلك"، ومن طريق عاصم بن كليب حدثنا أبي قال: "بينا نحن قعود عند علي فقام رجل عليه أثر السفر فقال: إني كنت في العمرة، فدخلت على عائشة فقالت: ما هؤلاء القوم الذين خرجوا فيكم؟ قلت: قوم خرجوا إلى أرض قريبة منا يقال لها حروراء، فقالت: أما إن ابن أبي طالب لو شاء لحدثكم بأمرهم، قال: فأهل علي وكبر فقال: دخلت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وليس عنده غير عائشة، فقال: كيف أنت وقوم يخرجون من قبل المشرق، وفيهم رجل كأن يده ثدي حبشية، نشدتكم الله هل أخبرتكم بأنه فيهم؟ قالوا: نعم، فجئتموني فقلتم ليس فيهم، فحلفت لكم أنه فيهم، ثم أتيتموني به تسحبونه كما نعت لي، فقالوا: اللهم نعم، قال فأهل علي وكبر"، قال أبو الوضي: كأني أنظر إليه حبشي عليه طريطق له، إحدى يديه مثل ثدي المرأة عليها شعيرات مثل شعيرات تكون على ذنب اليربوع"، ومن طريق أبي مريم قال: "إن كان وذلك المخدج لمعنا في المسجد، وكان فقيراً قد كسوته برنساً لي، ورأيته يشهد طعام علي وكان يسمى نافعاً ذا الثدية، وكان في يده مثل ثدي المرأة على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي، عليه شعيرات مثل سبلات السنور" أخرجهما أبو داود.

وفي رواية: "فقال علي: أيكم يعرف هذا؟ فقال رجل من القوم: نحن نعرفه، هذا حرقوص، وأمه هاهنا، قال فأرسل علي إلى أمه فقالت: كنت أرعى غنماً في الجاهلية، فغشيني كهيئة الظلة، فحملت منه فولدت هذا!"، وفي رواية عاصم بن شمخ عن أبي سعيد قال حدثني عشرة من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أن علياً قال: "التمسوا لي العلامة التي قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإني لم أكذب ولا أكذب، فجيء به فحمد الله وأثنى عليه حين عرف العلامة".

 

من فوائد الحديث وعبره:

سنذكر هنا فوائد الحديث مختصرة من كلام الحافظ ابن حجر بتصرف:

1  في هذا الحديث منقبة عظيمة لعلي، وأنه كان الإمام الحق، وأنه كان على الصواب في قتال من قاتله في حروبه في الجمل وصفين وغيرهما.

2  وفيه أنه لا يجوز قتال الخوارج وقتلهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم بدعائهم إلى الرجوع إلى الحق، والإعذار إليهم، وإلى ذلك أشار البخاري في الترجمة بالآية المذكورة فيها، واستدل به لمن قال بتكفير الخوارج، وهو مقتضى صنيع البخاري حيث قرنهم بالملحدين، وأفرد عنهم المتأولين بترجمة، وبذلك صرح القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي فقال: الصحيح أنهم كفار لقوله – صلى الله عليه وسلم -: "يمرقون من الإسلام"، ولقوله "لأقتلنهم قتل عاد" وفي لفظ "ثمود"، وكل منهما إنما هلك بالكفر، وبقوله "هم شر الخلق" ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولقوله: "إنهم أبغض الخلق إلى الله – تعالى-"، ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار، فكانوا هم أحق بالاسم منهم، وممن جنح إلى ذلك من أئمة المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي… وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك، وقال الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام.

3  قال ابن هبيرة: وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظ رأس المال أولى.

4   وفيه الزجر عن الأخذ بظواهر جميع الآيات القابلة للتأويل التي يفضي القول بظواهرها إلى مخالفة إجماع السلف.

5  وفيه التحذير من الغلو في الديانة، والتنطع في العبادة بالحمل على النفس فيما لم يأذن فيه الشرع، وقد وصف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة، وإنما ندب إلى الشدة على الكفار وإلى الرأفة بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج كما تقدم بيانه.

6  وفيه جواز قتال من خرج عن طاعة الإمام العادل، ومن نصب الحرب فقاتل على اعتقاد فاسد، ومن خرج يقطع الطرق، ويخيف السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد، وأما من خرج عن طاعة إمام جائر أراد الغلبة على ماله، أو نفسه، أو أهله فهو معذور، ولا يحل قتاله، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن عبد الله بن الحارث عن رجل من بني نضر عن علي وذكر الخوارج فقال: إن خالفوا إماماً عدلاً فقاتلوهم، وإن خالفوا إماماً جائراً فلا تقاتلوهم فإن لهم مقالاً.

قلت: وعلى ذلك يحمل ما وقع للحسين بن علي ثم لأهل المدينة في الحرة، ثم لعبد الله بن الزبير، ثم للقراء الذين خرجوا على الحجاج في قصة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث والله أعلم.

7   وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار ديناً على دين الإسلام.

8   وفيه منقبة عظيمة لعمر لشدته في الدين.

9   وفيه أنه لا يكتفي في التعديل بظاهر الحال ولو بلغ المشهود بتعديله الغاية في العبادة والتقشف والورع حتى يختبر باطن حاله.3


 


1 رواه البخاري ومسلم.

2 شرح ابن بطال (16/136-143).

3 فتح الباري لابن حجر (ج 12 / ص 289-301).