الخوف من سوء الخاتمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان وأراد منه عبادته وطاعته وإعمار الأرض بذلك، فهدى الله الذين آمنوا إلى الحق وثبتهم عليه وأماتهم على ذلك، وأضل الله الذين كفروا وظلموا عن الصراط المستقيم والحبل المتين، فجمع لهم بسبب كفرهم عذاب الدنيا والآخرة، وجعل لذلك دلالات يعرفون بها منها سوء الخاتمة.
أيها المسلمون: إن الخوف من سوء الخاتمة وشر العاقبة كان سلوك السلف الصالح – رضي الله عنهم-، فقد كان أحدهم يعمل الأعمال الصالحة وهو يخاف الله تعالى من أن يختم له بسوء، وما ذاك منهم إلا تواضع وتعظيم للذنوب الصغيرة والزلات النادرة، فجمعوا بين العمل الصالح والخوف من الله تعالى، بعكس المنافقين ومرضى القلوب الذين يجمعون بين سوء العمل والأمن من مكر الله، عياذا بالله من ذلك.
أيها المسلمون: هكذا حال المؤمنين بالله الموقنين بلقائه، عاشوا بين خوف ورجاء مع ما كانوا عليه من السلوك السليم، والعمل المستقيم، والخلق القويم.
وإن القصص والحوادث في سوء الخاتمة كثيرة، والمواقف عصيبة شديدة، نسأل الله الفرج والرحمة من عنده.
قال ابن القيم رحمه الله: إذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة؛ عقوبة لهم على أعمالهم السيئة. قال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الاشبيلي رحمه الله: وأعلم أن لسوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- أسباباً ولها طرق وأبواب أعظمها: الإنكباب على الدنيا وطلبها، والحرص عليها، والإعراض عن الأخرى، والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل، وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض، ونصيب من الجرأة والإقدام، فملك قلبه وسبى عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حجبه، فلم تنفع فيه تذكرة ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاءه الموت على ذلك، فسمع النداء من مكان بعيد فلم يتبين له المراد ولا علم ما أراد، وإن كرر عليه الداعي وأعاد.
قال: ويروي أن بعض رجال الناصر نزل به الموت فجعل ابنه يقول له: قل لا إله إلا الله، فقال: الناصر مولاي!! فأعاد عليه القول، فقال مثل ذلك، أصابته غشية، فلما أفاق قال: الناصر مولاي، وكان هذا دأبه كلما قيل له: لا إله إلا الله، قال: الناصر مولاي! ثم قال لابنه: يا فلان الناصر إنما يعرفك بسيفك والقتل القتل، ثم مات على ذلك.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا..! ويحكى أن رجلاً نزل به الموت فقيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول بالفارسية: ده يازده! تفسيره عشر بإحدى عشر. وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: أين الطريق إلى حمام منجاب..! وهذا الكلام له قصة وذلك أن رجلاً كان واقفاً بإزاء داره، وكان بابها يشبه باب هذا الحمام فمرت به جارية لها منظر، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فقال: هذا حمام منجاب، فدخلت الدار ودخل وراءها، فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه قد خدعها، أظهرت له البِشْر والفرح باجتماعها معه، وقالت -خدعة منها له وتحيلاً لتتخلص مما أوقعها فيه وخوفاً من فعل الفاحشة-: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقرَّ به عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين! وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها، فأخذ ما يصلح ورجع فوجدها قد خرجت وذهبت ولم تخنه في شيء، فهام الرجل وأكثر الذكر لها وجعل يمشي في الطرق والأزقة ويقول:
يارب قائلة يوماً وقد تعبت … أين الطريق إلى حمام منجاب
فبينا يقول ذلك وإذا بجاريته أجابته:
هلا جعلت سريعاً إذ ظفرت بها … حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب
فازداد هيمانه واشتد هيجانه، ولم يزل كذلك حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا. ويروى أن رجلاً عشق شخصاً فاشتد كلفه به وتمكن حبه من قلبه حتى وقع ألماً به ولزم الفراش بسببه، وتمنع ذلك الشخص عليه واشتد نفاره عنه، فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده أن يعوده، فأخبر البائس بذلك ففرح واشتد سروره وانجلى غمه وجعل ينتظر للمعياد الذي ضربه له، فبينا هو كذلك إذ جاءه الساعي بينهما فقال: إنه وصل معي إلى بعض الطريق ورجع، فرغبت إليه وكلمته فقال أنه ذكرني وبرح بي، ولا أدخل مداخل الريب ولا أعرض نفسي لمواقع التهم، فعاودته فأبى وانصرف، فلما سمع البائس ذلك أسقط في يده وعاد إلى أشد مما كان به، وبدت عليه علائم الموت، فجعل يقول في تلك الحال:
أسلم يا راحة العليل … ويا شفاء المدنف النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادي … من رحمة الخالق الجليل
فقلت له: يا فلان اتق الله! قال: قد كان!! فقمت عنه فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت..! فعياذاً بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة.
ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح فلما أصبح قيل له أكل هذا خوفاً من الذنوب؟ فأخذ تبنة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذه، وإنما أبكي خوفاً من الخاتمة!
وهذا من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى.
وقد ذكر الإمام أحمد عن أبى الدرداء أنه لما احتضر جعل يغمى عليه ثم يفيق، ويقرأ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) سورة الأنعام. فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجاباً بينهم وبين الخاتمة الحسنى.
أخي: أعلم أن سوء الخاتمة -أعاذنا الله تعالى منها- لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سُمع بهذا ولا علم به، ولله الحمد، وإنما تكون لمن فيه فساد في العقيدة أو إصرار على الكبيرة، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية، ويصطلم قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله.
ويروى أنه كان بمصر رجل يلزم المسجد للأذان والصلاة فيه، وعليه بهاء الطاعة ونور العبادة، فرقى يوماً المنارة على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دار لنصراني، فاطلع فيها فرأي ابنة صاحب الدار فافتتن بها، فترك الأذان ونزل إليها ودخل الدار عليها..! فقالت له: ما شأنك وما تريد؟ قال: أريدك!! قالت: لماذا؟ قال: قد سلبت لبي وأخذت بمجامع قلبي! قالت: لا أجيبك إلى رية أبداً. قال: أتزوجك، قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك! قال: أتنصر!! قالت: إن فعلت أفعل، فتنصر الرجل ليتزوجها وأقام معهم في الدار، فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات فلم يظفر بها وفاته دينه..!1 نعوذ بالله من الخذلان وسوء الخاتمة.
هذا ما ذكره ابن القيم رحمه الله.. وأما في زماننا فقد تعددت القصص والحوادث المخيفة في سوء الخاتمة، بسبب المعاصي والفجور والكفر بالله رب العالمين.
يقول أحد المعاصرين:
قبل فترة قصيرة كان لي صاحب كنت أنا وهو لا نفارق بعضنا البعض، أحبه ويحبني وكنا دائماً نردد أغنية من الأغاني دائماً في كل مجلس حتى بعض الأحيان نرددها في الهاتف.
فسافر إلى إحدى البلاد وبعد أيام رجع أصحابه وما رجع..! قلت: أين فلان ؟ قالوا: لي قد مات..! فلان صاحبي! قالوا: نعم، قال: فسألتهم كيف مات؟ قالوا: مات في حادث سيارة في لندن يقول: وكيف كان حال الوفاة؟ فقالوا: لقنَّاه الشهادة فأبى! ماذا قال حين الموت؟ لقد ردد نفس الأغنية التي كان يرددها في حياته!.
وقال أحدهم: في عصر ذلك اليوم اتصل علي أحد الإخوة وقال لي: إن والدي مرتكب للفواحش ويشرب الخمر و..و.. وقد حاولت فيه ولم يتغير وفي يوم من الأيام غاب عني .. وتمر الأيام ويأتيني اتصال من أحد المستشفيات. هل أنت فلان ابن فلان؟ قلت: نعم. قالوا: نريدك في مستشفى. فلما حضرت قالوا: هذا والدك؟ قلت: نعم، ولكن المصيبة هي أن وجه والدي كان شديد السواد! أما باقي جسمه فلم يتغير لونه حينها عرفت أن والدي مات على سوء الخاتمة؛ لأنه كان بعيداً عن الله تعالى .. فنصيحتي لمن كان معرضاً: أقبل على الله قبل أن تموت كما مات والدي …
ورجل يعمل في أحد الأسواق حمالاً طويل القامة مفتول العضلات يحمل من الأثقال ما لا يستطيع أن يحمله الرجل والرجلان قيل له: لماذا لا تصلي؟ أبداً ما يستجيب قال: أنا على هواي أفعل ما أشاء ولا أحد يأمرني وينهاني!! اغتر بقوته وعضلاته، يذهب الناس حين الصلاة بعد إغلاق أماكنهم ومحلاتهم إلى المسجد وهو يجلس في مكانه يأكل ويشرب، سبحان الله! ألا يحمد الله على هذه النعم وهل الحمد والشكر يكون بالكلام فقط سبحان الله! يمهل ولا يهمل سار يوماً بين المحلات وهو يحمل حملا ثقيلاً فزلت قدمه على قشرة موز.. والنتيجة أنه أصيب بشلل كامل ووضع على الفراش لا يتحرك منه إلا رأسه ويُسأل: ما هي الأمنية التي تتمناها الآن؟ قال: أتمنى أن أصلي مع الجماعة.
الله أكبر ما كنت تغدو وتروح، ما كنت تُذكر ويقال لك: صل مع المصلين وحافظ على أوامر الله مع المحافظين، فما استقمت وما صلحت إلا حين رأيت المصيبة.
نسأل الله حسن الختام، ونعوذ به من سوء الخاتمة، ونسأله مغفرة الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وبالإلهية والعبودية يفردوه، وجعل لهم آجالاً لا تزيد ولا تنقص عن موعد وُعدوه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن على طريق الحق ناصروه وساعدوه، أما بعد: أيها الناس: إن لسوء الخاتمة أسباباً كثيرة يعود مجملها إلى التمادي في المعاصي، والإصرار على الذنوب.
وأكثر ما يقع سوء الخاتمة لثلاث طوائف من الناس: أهل البدع والزيغ في الدين، لأن إيمانهم مرتبط بالمعقول، فأول آية تظهر لهم من قدرة اللّه تعالى أن يطيح عقله عند شهودها فيذهب إيمانه ولا يثبت لمعاينتها، كما تحترق الفتيلة فيسقط المصباح.
والطبقة الثانية: أهل الكبر والإنكار لآيات اللّه عزّ وجلّ..؛ لأنهم لم يكن لهم يقين يحمل القدرة ويمده الإيمان؛ فيعتورهم الشك ويقوى عليهم لفقد اليقين.
والطبقة الثالثة ثلاثة أصناف: متفرقون متفاوتون في سوء الخاتمة، وجميعهم دون تينك الطائفتين في سوء الخاتمة، لأن سوء الختم على مقامات أيضاً كمقامات اليقين والشرك في عمر الحياة، منهم المدعي المتظاهر الذي لم يزل إلى نفسه وعمله ناظراً، والفاسق المعلن، والمصرّ المدمن، يتصل بهم المعاصي إلى آخر العمر، ويدوم تقلبهم فيها إلى كشف الغطاء، فإذا رأوا الآيات تابوا إلى اللّه تعالى بقلوبهم، وقد انقطعت أعمال الجوارح فليس يتأتى منهم، فلا تقبل توبتهم، ولا تقال عثرتهم، ولا ترحم عبرتهم، وهم من أهل هذه الآية، (ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ للَّذينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ) (النساء:18) فهم مقصودون بقوله عزّ وجلّ: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) (سبأ:54) وهم معنيون بمعنى قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوا بَأْسَنا قَالُوا آَمَنَّا باللّهِ وَحْدَهُ) غافر:84، فنصوص الآية للكفار، ومعناها ومقام منها لأهل الكبائر وذوي الإصرار من الفاسقين الزائغين، من حيث اشتركوا في سوء الخاتمة، ثم تفاوتوا في مقامات منها، تظهر لهم شهوات معاصيهم، ويعاد عليهم تذكرها، لخلو قلبهم من الذكر والخوف حتى يختم لهم بشهادتها؛ فهذه الأسباب تجلب الخوف، وتقطع قلوب ذوي الألباب.2
أيها المسلمون: اعلموا أن سوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا و لا علم به، الحمد لله، و إنما تكون لمن كان له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله ثم العياذ بالله، أو يكون ممن كان مستقيماً ثم يتغير عن حاله ويخرج عن سننه ويأخذ في طريقه فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمه وشؤم عاقبته، كإبليس الذي عبد الله فيما يروى ثمانين ألف سنة، وبلعام بن باعوراء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بخلوده إلى الأرض واتباع هواه، وبرصيصا العابد الذي قال الله في حقه: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) سورة الحشر3، نسأل الله حسن الخاتمة، وشرف العاقبة.. والحمد لله رب العالمين.