قصة الملأ من بني إسرائيل

قصة الملأ من بني إسرائيل

قصة الملأ من بني إسرائيل

"قصة طالوت"

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد قص الله علينا في كتابه قصصاً كثيرة؛ ومن هذه القصص قصة الملأ من بني إسرائيل، وهم الأشراف والرؤساء؛ فقال تعالى: ألم تر أي ألم تعلم؛ لأن هذه الرؤيا العلمية وليست الرؤيا البصرية؛ وهذا الاستفهام يدل على التعلم والدعوة؛ فكأنه يقول: تعلم قصة هؤلاء؛ والخطاب هنا للرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنه زعيم الأمة، وهو كذلك خطاب للأمة؛ لأنها تبع له.

المقصود بالملأ:

قوله تعالى: إلى الملأ من بني إسرائيل الملأ هم الأشراف والكبراء والوجهاء، وخصهم الله بالذكر؛ لأنهم في العادة هم الذين يبحثون عن مصالحهم ليتفقوا، فيتبعهم غيرهم على ما يرونه، فقد اجتمع هؤلاء الوجهاء والكبراء واتفقوا على أن يأتوا إلى نبي لهم من بعد موسى -عليه السلام-، ولم يذكر الله اسمه؛ لأنه ليس هناك كبير فائدة في ذكر اسمه، وقد أرسل إلى بني إسرائيل رسل وأنبياء كثر، كلما هلك نبي خلفه نبي؛ كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي)1. وهذا يدل على كثرة أنبياء بني إسرائيل.

وقد كانت قصة هؤلاء الملأ بعد زمن موسى -عليه السلام-؛ كما قال الله تعالى: من بعد موسى؛ قال ابن كثير -رحمه الله-: "كان هذا بعد موسى -عليه السلام- بدهر طويل، وكان ذلك في زمن داوود -عليه السلام- كما هو مصرح به في القصة-كما سيأتي في سياق الآيات-، وقد كان بين داود وموسى ما ينيف عن ألف سنة"2.

أهمية القائد:

لقد اجتمع هؤلاء الملأ عند نبي من أنبيائهم، فطلبوا منه أن يبعث لهم قائداً من أجل أن يقاتلوا معه وتحت رايته؛ فقالوا له: ابعث لنا ملكا أي عيِّن لنا ملكاً وقائداً من أجل أن نقاتل في سبيل الله؛ وذلك لأنه لابد من القائد للجيش في المعركة، وكان أمرهم في ذلك الوقت فوضوي ليس عندهم ملك يدبر أمورهم، ويدبر شؤونهم؛ والناس إذا كان ليس لهم ولي أمر صار أمرهم فوضى؛ كما قيل:

لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم *** ولا سُراة إذا جُهَّالهم سـادوا

ولهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- القوم إذا سافروا أن يؤمِّروا أحدهم عليهم حتى لا تكون أمورهم فوضى..

وضوح الرايـة:

وقوله: نقاتل في سبيل الله؛ أي طلبوا ليس القتال فقط، بل يقاتلوا في سبيل الله -تعالى- من أجل إعلاء دينه، وليس من أجل الدنيا، أو الرئاسة، أو غير ذلك؛ لأن البعض قد يقاتل من أجل نفسه وشهوته، وتحت راية جاهلية، فيجب على المسلم أن لا يشترك في أي قتال ذي راية جاهلية، وإنما يبذل نفسه وماله في سبيل الله، وأن لا يرمي بنفسه في أي معركة غير واضحة الأهداف والمعالم.

تصفيـة الصف الإسلامي:

لقد قال لهم نبيهم -يريد أن يختبرهم وينظر عزيمتهم-: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا أي إن فرض عليكم القتال أن لا تقاتلوا؛ فكان جوابهم أن قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا أي: أي شيء يمنعنا من القتال وقد ألجئنا إليه، بأن أخرجنا من أوطاننا وسبيت ذرارينا، فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا، فكيف مع أنه فرض علينا وقد حصل ما حصل، ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم على ربهم؛ فلما كتب عليهم القتال تولوا جبنوا عن قتال الأعداء، وضعفوا عن المصادمة، وزال ما كانوا عزموا عليه، واستولى على أكثرهم الخور والجبن إلا قليلا منهم فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم فالتزموا أمر الله ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه، فحازوا شرف الدنيا والآخرة، وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله، فلهذا قال: والله عليم بالظالمين الظلم هنا ليس لفعل محرم؛ ولكنه لترك واجب؛ لأن ترك الواجب كفعل المحرم فيه ظلم للنفس، ونقص من حقها.

وهذه طبيعة اليهود عبر السنين: التمرد والمراوغة، والمجادلة، والنكوص، والتأخر، والإتيان بالأعذار، وخذلان الأنبياء، وعدم الوفاء بالعهود والوعود: فلما كتب عليهم القتال تولوا أعرضوا ونكصوا حتى أن موسى –عليه السلام-  عرض عليهم دخول الأرض المقدسة فرفضوا دخولها: ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم؛ وبعد ذلك كله قالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.

فلما فرض عليهم القتال وتذكروا أنهم قد يفقدون أنفسهم في المعركة خافوا فـتولوا؛ قال القرطبي -رحمه الله-: "وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة، فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها"؛ وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية؛ فإذا لقيتموهم فاثبتوا)3.4

وطبعاً هذه أول تصفية كانت لهؤلاء القوم وتنقية لهم، فقد عُرف الصادق من الكاذب؛ فتولى الكثير منهم ولم يثبت إلا القليل؛ كما أخبر الله بذلك.

اعتراضهم على الله وعلى نبيه:

ثم أجابهم نبيهم على طلبهم كما حكى الله ذلك: وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً فعين الله لهم طالوت، فكان الواجب عليهم القبول والانقياد، وترك الاعتراض، ولكن أبوا إلا أن يعترضوا، فقالوا: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه كأنهم يرون أن الملك لا يكون إلا كابراً عن كابر، وأن هذا لم يسبق لأحد من آبائه أنه تولى الملْك بخلافنا نحن، فإن الملوك كانوا منا، فكيف جاءه الملك؟! أيضاً ولم يؤت سعة من المال فهو فقير، وقد يقال: إنه ليس بفقير، لكن ليس عنده مال واسع؛ وفرق بين الفقير المعدم، وبين من يجد، ولكن ليس ذا سعة -يعني ليس غنياً ننتفع بماله-، ويدبرنا بماله، ويحصّل الجيوش والجنود بماله؛ فذكروا علتين: إحداهما: من حيث التوسط في مجتمعه؛ والثانية: من حيث المال. إذاً فَقَدَ القوة الحسبية، والقوة المالية، قالوا: هذا الرجل ليس عنده حسب؛ فليس من أبناء الملوك، وليس عنده مال فليس من الأثرياء الذين يُخضعِون الناس بأموالهم.

مميزات القائد المسلم:

ثم بين لهم نبيهم مميزات القائد، وأن الله -تبارك وتعالى- قد يصطفي من الناس قادة يقودون الأمة، ويجاهدون في سبيل الله، فقال لهم: إن الله اصطفاه عليكم فيلزمكم الانقياد لذلك، وفضله على ذلك بأن وسع عليه في علمه وجسمه؛ فقال: وزاده بسطة أي سعة؛ كقوله تعالى: والله يقبض ويبسط سورة البقرة(245)، وذلك بأن فضله عليكم بالعلم وبالجسم؛ فقال تعالى: في العلم والجسم المراد بـ العلم علم تدبير الملْك؛ فعنده من الحنكة والرأي ما جعله مختاراً عليهم من قبل الله –عز وجل-؛ أيضاً زاده بسطة في الجسم وهي القوة، والضخامة، والشجاعة؛ فاجتمع في حقه القوتان: المعنوية -وهي العلم؛ والحسية- وهي أن الله زاده بسطة في الجسم.

قوله تعالى: والله يؤتي ملكه من يشاء أي يعطي ملكه من يشاء على حسب ما تقتضيه حكمته، كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ سورة آل عمران(26).

قوله تعالى: والله واسع أي ذو سعة في جميع صفاته؛ واسع في علمه وفضله وكرمه وقدرته وقوته وإحاطته بكل شيء وجميع صفاته وأفعاله وعليم أي ذو علم بكل شيء؛ ومنه العلم بمن يستحق أن يكون ملكاً، أو غيرَه من الفضل الذي يؤتيه الله -سبحانه وتعالى- من يشاء.

بعض آيات هذا النبي -عليه السلام-:

ثم ذكر لهم نبيهم أيضاً آية حسية يشاهدونها، وهي إتيان التابوت الذي قد فقدوه زمانا طويلاً، وفي ذلك التابوت سكينة تسكن بها قلوبهم، وتطمئن لها خواطرهم، وفيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فأتت به الملائكة حاملة له وهم يرونه عيانا؛ فقال تعالى: وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت معنى آية أي علامة؛ كما قال تعالى: أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل سورة الشعراء (197) يعني علامة تدل على أنه حق.

وهذه العلامة هي: التابوت وهو شيء من الخشب، أو من العاج يشبه الصندوق، ينزل ويصطحبونه معهم، وفيه السكينة -يعني أنه كالشيء الذي يسكنهم ويطمئنون إليه- وهذا من آيات الله.

ومن فوائد هذه الآية أن: فيه سكينة من ربكم تسكنون إليها وتطمئنون إليها، وهي كذلك بقية وأثر مما تركه آل موسى وهارون؛ فقال تعالى: وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون وهم الأنبياء تركوا العلم، والحكمة؛ لأن الأنبياء لم يورِّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فهذا التابوت كان مفقوداً، وجاء به هذا الملِك الذي بعثه الله لهم، وصار معهم يصطحبونه في غزواتهم فيه السكينة من الله -سبحانه وتعالى-: أنهم إذا رأوا هذا التابوت سكنت قلوبهم، وانشرحت صدورهم؛ وفيه أيضاً مما ترك آل موسى وآل هارون -عليهما الصلاة والسلام- من العلم والحكمة.

وقوله تعالى: تحمله الملائكة الجملة حال من التابوت والملائكة عالم غيبي خلقوا من نور، وطبعاً أتت الملائكة بالتابوت تحمله أمام أعين الناس تحت وضعته أمام طالوت؛ إن في ذلك لآية من آيات الله، والمشار إليه: "التابوت" إن كنتم مؤمنين أي ذوي إيمان.

فهذه هي البينة التي إذا أتتكم ستعلمون بأن هذا فعلاً مراد الله، وأن الله- عز وجل- يريد هذا الرجل.

بعض الفوائد من الآيات:

1.    الحث على النظر والاعتبار؛ لقوله تعالى: ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل.

2.    تحذير هذه الأمة عن التولي عن القتال إذا كتب عليهم.

3.    أنه لابد للجيوش من قائد يتولى قيادتها؛ لقولهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله.

4.  أن مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الملك؛ لقولهم: ابعث لنا ملكاً يخاطبون النبي؛ فالنبي له السلطة أن يبعث لهم ملكاً يتولى أمورهم ويدبرهم.

5.    الإشارة إلى الإخلاص لله -سبحانه وتعالى-؛ لقوله تعالى: في سبيل الله.

6.  أن الإنسان بفطرته يكون مستعداً لقتال من قاتله؛ لقولهم: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؛ ولهذا تجد الجبان إذا حُصر يأتي بما عنده من الشجاعة، ويكون عنده قوة للمدافعة.

7.  أن البلاء موكل بالمنطق؛ لأنه قال لهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؛ فكان ما توقعه نبيهم واقعاً؛ فإنهم لما كتب عليهم القتال تولوا.

8.  وجوب القتال دفاعاً عن النفس؛ لأنهم لما قالوا: وقد أخرجنا قال تعالى: فلما كتب عليهم القتال أي فرض عليهم؛ ليدافعوا عن أنفسهم ويحرروا بلادهم من عدوهم وكذلك أبناءهم من السبي.

9.  أن ترك الواجب من الظلم؛ لقوله تعالى: تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين أي المتولين الذين فرض عليهم القتال ولم يقوموا به، فدل ذلك على أن الظلم ينقسم إلى قسمين: إما فعل محرم، وإما ترك واجب.

10.           كمال تعظيم الأنبياء لله تعالى، وحسن الأدب معه؛ لقول نبيهم: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ولم يقل: إني بعثت.

11.           أن الله قد يعطي المُلك من لا يترقبه؛ لكونه غير وجيه، ولا من سلالة الملوك.

12.     أن الملك تتوطد أركانه إذا كان للإنسان مزية في حسبه، أو نسبه، أو علمه، أو قوته؛ يؤخذ هذا أولاً من قولهم: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؛ وثانياً من قوله: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم.

13.     أنه كلما كان ولي الأمر ذا بسطة في العلم، وتدبير الأمور، والجسم، والقوة كان أقوَم لملكه، وأتم لإمرته؛ لقوله تعالى: وزاده بسطة في العلم والجسم.

14.     أن ملكنا لما نملكه ليس ملكاً مطلقاً نتصرف فيه كما نشاء؛ بل هو مقيد بما أذن الله به؛ ولهذا لا نتصرف فيما نملك إلا على حسب ما شرعه الله؛ فلو أراد الإنسان أن يتصرف في ملكه كما يشاء – يتلفه ويحرقه، ويعذبه إذا كان حيواناً – فليس له ذلك؛ لأن ملكه تابع لملك الله -سبحانه وتعالى-.

15.     ما في التابوت من الآيات العظيمة، حيث كان هذا التابوت مشتملاً على ما تركه آل موسى، وآل هارون من العلم والحكمة من وجه، وكان أيضاً سكينة للقوم تسكن إليه نفوسهم، وقلوبهم، ويزدادون قوة في مطالبهم.

16.           أن الآيات إنما ينتفع بها المؤمن؛ لقوله تعالى: إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.

17.     فضيلة الإيمان، وأن الإيمان أكبر ما يكون تأثيراً في الانتفاع بآيات الله -عز وجل-؛ لقوله تعالى: إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.

18.     أن الإنسان إذا ازداد إيماناً ازداد فهماً لكتاب الله -سبحانه وتعالى-، وسنّة رسوله –صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الشيء إذا علق على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف، وينقص بنقصانه؛ فكلما تم الإيمان كان انتفاع الإنسان بآيات الله أكثر، وفهمه لها أعظم5.

نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الدين وأن يهب لنا من لدنه رحمة وعلماً وحكماً إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.


 


1 رواه البخاري ومسلم.

2 تفسير القرآن العظيم (1/403).

3 رواه البخاري ومسلم.

4  الجامع لأحكام القرآن(3/232).

5  راجع: تفسير القرآن العظيم(1/403- 404) لابن كثير. والجامع لأحكام القرآن(3/232- 236). ومعالم التنزيل(295- 298). وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، صـ(107). وتفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.